( ريَّان ) وحَّدَ أُمة
في دورة الحياة على الكرة الأرضية تتقلب الفصول من صيفٍ وربيعٍ إلى شتاءٍ وخريف ، ولكُلِّ فصلٍّ صفاتهُ وميزاته التي حباها الله له ، ولكن يبقى فصل الخريف مُتميزاً عن باقي الفصول ، وذلك عندما نرى أغصان الأشجار تجِفُّ وتصفرُّ أوراقها وتخبو نضارتها مُعلنة نهاية دورة حياتها ، وكذلك الطيور تهاجرُ من أوطانها باحثةً عن مأوىً دافئاً في مناطق غريبةً وبعيدةً عنها ، ولكن رُغم ذلك يبقى عطاء الله مستمراً وموصولاً في باقي الفصول من صيفٍ وشتاءٍ وربيع ، وتعود الأرض لتزدان وتلبسُ حُلَّتها القشيبة ، وتعود دورة الحياة إلى نشاطها بحركة مستمرة ودؤوبة .
ما أود أن أقوله ما أشبه أُمتنا العربية والإسلامية بفصل الخريف الذي تتساقطُ فيه أوراقه ، ولكنه فصلٌ واحدٌ وينتهي وتعود الأشجار إلى نضارتها والأوراق إلى اخضرارها ونصاعة ألوانها البهية ، ولكن فصول أمتنا التي صنعتها بأيديها ، كُلَّها فُصول خريفٍ لا تنتهي تجري فيها شلالات الدماء والهدم والدمار.
ما دفعني لكتابة هذا المقال فاجعة سقوط إبن المغرب العزيز ريَّان في البئر ووفاته عليه رحمة الله تعالى .
يا لهُ من إسم جميل يعني معنى الإرتواء من العطش وريَّان يعني إرتواء الأغصان لتترعرع وتقوى ، نعم يا ريَّان فقد أعدت لنا وأحييت لنا الإنسانية ورويتنا بها والتي افتقدناها منذ زمن بعيد !! نعم يا ريَّان فقد أعدت بثَّ المروءة في دمائنا التي جفَّت في عروقنا !! نعم يا ريَّان لقد أعدت فينا روح التضامن التي افتقدناها وذكرتنا بأننا لا نزالُ أمةً واحدةً يجري في عروقنا دمٌ واحد ، وكما قال الشاعر علي الجارم :
تذوب حُشاشات العواصم حسرةً
إذا دميت من كف بغداد إصبع
ولو صُدِّعت في سفحِ لُبنان صخرةً
لدكَّ ذُرى الأهرامُ هذا التصدُّعُ
ولو بردى أنَّتْ لخطبٍ مياههُ
لسالت بوادي النيل للنيل أدمُعُ
ولو مسَّ رضوى عاصفُ الريحِ مرةً
لباتت لها أكبادُنا تتقطَّعُ
أولئك أبناء العروبة مالهم
عن الفضل منأىً أو عن المجدِ منزع
نعم هكذا كانت العروبة وهكذا كانت اللُحمة العربية ، فكانت الأرض واحدة والأجساد واحدة والدمُ واحد ، ولكن بعد أن تفرقت وتولى أمورنا الإستعمار
فللأسف أصبحت كل أكُفَّ عواصمنا مُدماه ، ولكن أين الطبيبُ المُداويا ؟!!
كل أبناء أمتنا توحدت تترقب خروجك سالماً من البئر يا ريَّان ، وقد عمل الأبطال من رجال الدفاع المدني ورجال الدرك المغربي كُلَّ جهودهم من أجل إنقاذ هذا الملاك الصغير ، ولا ننتقصُ من جهودهم مع الإمكانيات المتاحة لهم من أجل إنقاذه ، مع أنه وحسب اعتقادي وتوقعاتي أن ريَّان قد مات فور سقوطه لسببين أولاهما تناقض مصادر الحكومة في إعلانهم عن عُمق البئر ففي البداية قالوا أن عُمق البئر إثنان وثلاثون متراً ، وبعد ذلك أعلنوا أن العمق أربعة وستين متراً ، والسبب الآخر أننا نحنُ الآن في فصل شتاء فهل يُعقل أن يكون البئر جافاً ، فموته مُحققٌ من البداية ، ولماذا هذه المدة التي مكثوا فيه ما يُقارب الأسبوع ، دلالة على أنه لا يوجد آليات ومعدات تتعامل بشكلٍ واقعي لإخراج هذا الطفل فإن لم يكن بارتطام جسده في قاع البئر ، وإذا لم يكن كذلك فسيكون غرقاً وقد حدثت في الصين حادثة شبيهه لهذا الحدث قبل سنوات ونُشرت في وسائل التواصل الاجتماعي آنذاك، إذ سقط طفل صغير في بئر على عُمق إثنين وأربعين متراً ، وقد تم إخراجه وإنقاذه خلال ساعة واحدة فقط وذلك بفضل نوعية الآليات والمعدات التي تم استعمالها ، ولكن تبقى إرادة الله وقضاؤه هي الحكم ، وكما قال الشاعر:
من لم يمُت بالسيفِ مات بغيرهِ
تنوعت الأسباب والموت واحد
وهكذا مات الملاك الصغير ريَّان وانتقل إلى الرفيق الأعلى وإلى رياض الجنان وطويت صفحة من صفحات تجلَّت فيها الإنسانية بأسمى معانيها بتعاطف أبناء أمتنا العربية والإسلامية مع هذا المُصاب الجلل ، فرحمك الله يا ريَّان وألهم أهلك الصبر والسلوان .
لقد آلمنا موتك وفراقك يا ريَّان وقد تساقطت أوراق خريفك الخمسُ مُبكراً قبل أوانها ، وهذا أمرٌ لا إعتراض عليه ، فهذا قضاء الله ولا رادَّ له قال تعالى ( لكل أجل كتاب ) ولكن بقدرِ ما آلمنا أن تكون نهايتك الموت ، فقد أعطت فاجعتك بارقة أملٍ في أن هذه الأمة يبقى الخيرُ فيها مهما ألمت بها المُلِمات والمصائب ، وقد أعادت لنا ذاكرتنا بأننا لا نزالُ إُمة واحدة فمُصابنا واحد وألمنا واحد وفرحنا واحد ، فكُلِّ جُرحٍ أو ألمٍ يُصيب أيُّ قُطر في شمالٍ أو جنوب أو غربٍ أو شرق فهو يُصيبُ كُلَّ واحدٍ منا ، لأن ما يسري في عروقنا هو دمٌ واحد مهما حاولوا أن يفرِّقونا أو يزرعوا بذور الفتنة بيننا فيبقى مصيرنا واحد وتجمعُنا لُغةٌ واحدة وعاداتٌ وتقاليد واحدة ، وديننا وكتابنا واحد ورسولنا خير البشرية محمدٌ صلى الله عليه وسلم وخير المرسلين .
ولكن أقول هل ريَّان أول ريَّانٍ سقطت أوراق خريفه ، فكم من ريَّانٍ أو ريَّانةٍ سقطوا بدون ذنب إما من ذوي القربى وهذا أشدُّ مضاضة ، أم من أعداء الأمة الذين يستهدفونها ولا يريدون أن تقوم لها قائمة ، وهذا ما نراهُ في أُمة أصابها الوهن والهوان والضعف ، وفرَّق العدو صفوفهم بزرع البغضاء والضغينة بينهم ، فأصبحوا كُلَّ همهم شراء أسلحة الدمار والقتل لقتال بعضهم وتناسوا شعوبهم ، وكلها بسبب عصبيات وطائفيات أوقد الأعداء أوار نارها بينهم ، ويا ليتهم وفَّروا أموالهم لنهضة أمتهم وبناء الإنسان الذي هو حسب مقولتهم ( الإنسان أغلى ما نملك ) لكن أين هم من هذا القول وتطبيقه ؟!! .
لقد مُتَّ يا ريَّان وانتقلتَ ضيفاً مُكرَّماً عند الله جلَّ عُلاه ، تطوفُ طائراً في جنان الله الواسعة ، وسيستقبلُك الكثير من طيور الجنة الذين سبقوك بسبب ويلات الحروب وتفرُّق الأخوان ، أو انعدام الضمائر والإنسانية ، فلن ننسى يا ريَّان من سبقوك كطفل سوريا ( عيلان الكردي ) الذي مات على شواطئ تركيا هرباً من أتون الحرب التي أكلت الأخضر واليابس في بلاده فتركها مُهاجراً إلى بلاد الغُربة والشتات ليتلقفهُ الموتُ هناك ، وكيف لنا أن ننسى محمد الدُرة إبن غزة الذي قتلهً الصهاينة بدمٍ بارد وهو يحتمي خلف أبيه ولم تشفع له صرخاته أو صرخات أبيه ، ولن ننسى أيضاً حرق المستوطنين للطفل ذي الأربعُ سنوات الذي حرقوا بيت أسرته في الضفة الغربية ، ولن ننسى الطفل الأردني أمير الذي كان يناشد هو وأسرته المسؤولين لمن ينقذه من مرضه الذي استفحل فيه وهو مرض التليُّف الكيسي الذي يُصيب الرئة نتيجة عامل وراثي وقد سبق وإن توفي أُخوةٌ له بنفس المرض ، ولكنه لم يجد آذاناً صاغية ، وقد خاطب المسؤولين والناس قبل موته بأيام وببراءة بقوله ) أنا ما حدا راضي يساعدني لأنه أبوي طفران ، وأنا تعبان كثير ) وقال أيضاً :
( أنا عند الله راح أحكي شيء )
كيف لنا أن ننسى الأبرياء الذين ماتوا ويموتون في فلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا ، وفي بقاعٍ كثيرة من وطننا العربي في حروبٍ عبثية فرضتها علينا قوى الغرب .
فمتى ينتهي خريف هذه الأمة الذي لا ينتهي ؟ ومتى نعود لنتوحد كأمة واحدة كما توحدت مشاعرنا مع ريَّان ؟ وما الذي سيُعدِّلُ حال الأمة من أسىً إلى غِبطة ومن انتكاسة إلى نهضة ، ومن تقهقُرٍ إلى تقدُّم ؟ وكيف نستردُّ أوج حضارتنا ونجبرُ عثرات أمتنا لكي تبرأ من آلامها ؟
أن الإجابة على هذه الأسئلة والذي يعيد فجر الأمة الباسم ليُشرق من جديد هو الآتي :
أولاً : العودة لديننا وقرآننا وهدي رسولنا والتخلص من العصبيات والطائفيات التي نخرت جسد الأمة
ثانياً : التعليم هو الرادع لكُلِّ أزمات الأمة
ثالثاً : الحفاظ على العُلماء واحترامهم وعدم هجرة الخبرات والعقول إلى الغرب
رابعاً : أمتنا حباها الله بكل الخيرات من مالٍ وثروات وكل شيء ، فلماذا لا نصبح أمة منتجة للغذاء والدواء ومختلف الصناعات من سلاح ومعدات وكل ما يلزمنا وهم يأخذون أو يسرقون خامات بلادنا من مواد ومعادن ويصنعوها ويعيدوها لنا ، فلماذا نُسلِّم رقابنا لهم ، ونحن لا ينقصنا شيء ، وكيف لنا ان ننتصر ونحن ضُعفاء ومنقادون لهم ؟ قال تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوَّةٍ ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ، وما تُنفقوا من شيءٍ في سبيل الله يُوفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون )
بهذا كله يُقوَّم السلوك وتسود السلوكيات الحضارية في النفوس وتتوطد أعمدة الثقة وتترسخ الوحدة بيننا ، فكيف بعد ذلك نقبل أن نكون في أذيال الأمم.
عليكم أن تقتدوا بقول الله الذي يدعوكم فيه إلى الوحدة والإجتماع قبل أن يدعو إلى أركان الإسلام من صلاةٍ وصيامٍ وحجٍ وزكاة ، وقد قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله حق تُقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا ) وقال الله تعالى أيضاً : ( إنَّ هذه أمتكم أُمةً واحدة وأنا ربُّكم فاعبدون)
إن الأمة بحاجة إلى قائدٍ كصلاح الدين الأيوبي يُعيد للأمة عزتها ، ولا تكون عِزَّتها إلا بإسلامها وعقيدتها وهديِ رسولها الكريم ، وبها نُرسِّخُ مبادئ الإنسانية كُلَّها التي سعت إلى إسعاد الناس ونُصرة المظلوم وردع الظالم وإغناء الفقير ، بهذا كله يكون صلاح الأمة وتلتئمُ جراحها وتتوحدُ صفوفها ، وبراية الإسلام نعلو ونرتفع وتعود لنا عِزَّتنا وأمجادنا ، قال الشاعر :
يا أُمةَ الحقِّ إنَّ الجُرحَ مُتسعُ
فهل ترى من نزيف الجُرح نعتبرُ ؟
ماذا سوى عودةٌ لله صادقةً
عسى تُغيرُ هذي الحالً والصورُ
صخر محمد حسين العزة
عمان- الأردن
6/2/2022