من ذُل الإنكسار إلى شرف الإنتصار
إن المُتتبع لتاريخ أُمتنا العربية خاصة والإسلامية عامة منذ أن أنشأ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام ، وتبعه بعدها على نفس النهج الخلفاء الراشدين وما تلاهم من دولٍ أخرى من الأمويين والعباسيين ومنتهية بالخلافة العثمانية ، وعبر هذه الدول تجلت قوة الأُمة وعظمتها وعزتها ، وقد مرًّ عليها في بعض الحقب الوهن والضعف ، لكن بعد ذلك تعود إلى القوة والعزة والشموخ ، ولكن بعد سقوط الخلافة العثمانية وحتى الآن ونحن في سقوطٍ وانحدار وضعفٍ ووهن ، وإذا تسائلنا بين أنفسنا ما الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من ضعف ووهن ، وما الذي جعلنا إذلةً بعد عِز وقوة ؟ فما الذي جعلنا نُصاب بالخور والضعف والوهن ، وجواب ذلك جليٌّ وواضح في النص القرآني التالي ، قال تعالى في سورة الرعد -الآية 11 : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } .
وهذا فحوى مقالي وهو ما سبب هزائمنا وانكسارنا ؟ وما الذي أوصلنا إلى هذا الدرك الذي نحن فيه ؟
بعد سقوط الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وذلك بالتآمر عليها وإضعافها ، وتم دخولالإستعمار وتوقيع إتفاقية سايكس بيكو وعلى إثرها تم تجزئة الوطن العربي إلى عدة دول تقاسمتها دول الإستعمار من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا ، وقامت شعوب الدول العربية بتقديم التضحيات وتقديم الغالي والنفيس لطرد المستعمر ونيل الإستقلال ، وتم ذلك لهم ، ولكن هذا الإستقلال كان مجزوءاً ، لأن قرارات هذه الدول بقيت مرتبطة ومرهونة بيد المستعمر عدا عن أبقاءهم بين كل دولتين منطقة متنازع عليها لتبقى الخلافات مستعرة بين الأخوة ويبقى الوهن والضعف مسيطر على مقدراتهم واستنزاف طاقاتهم ، ونستنتج من كل ذلك أن عوامل انكسار الأمة التي تندرج في الآتي والذي كان سببه الإستعمار :
أولاً : تجزئة الأمة إلى دويلات وكل دولة لها أيدولوجياتها ونظامها الخاص به وتبعيتها للدولة التي كانت مستعمرة لها
ثانياً : التفرقة والتناحر بين الدول وخلق مناطق نزاع بين كل بلدين حتى تبقى في حالة ضعف
ثالثاً : إنتشار النفاق والمنافقين الذين وظيفتهم إحباط المسلمين وتثبيط عزائمهم
رابعاً : الإغترار بعدد الأعداء وقوتهم ونسوا قول الله تعالى في سورة القرة – الآية 249 : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
خامساً : حُب الدُنيا وانتشار الفساد ومخالفة الأوامر الشرعية ، وكل ذلك أبعدهم عن الإيمان والتوكل على الله ونسوا أن النصر بيد الله عزَّ وجلْ قال تعالى في سورة التوبة – الآية 25 : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ }
سادساً : إنَّ مكمن قوة أيُّ أُمة يكون بتمسكها بعقيدتها والإيمان برسالتها وقضاياها ، وهذا ما نفتقده حالياً لضعف إيماننا ، وعدم وضوح الهوية الإسلامية ، فالنصر يأتي من عند الله عندما نكون مخلصين لديننا وتطبيق شريعتنا ، قال تعالى في سورة غافر – الآية 51 : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ }
سابعاً : عدم وجود القدوات وموالاة الأعداء مما يبث الإحباط واليأس وعدم الثقة بقدرتهم على التغيير وسبب ذلك إيلاء مقدرات الأمة ألى غير أهلها
ثامناً : عدم وجود القائد الذي يلُم شمل الأمة ، مُقتدياً بأجدادنا الأوائل ، فصلاح الدين الأيوبي لم يتوجه إلى حطين إلا بعد أن وحد الدول التي كانت متناحرة ، وأعاد تربية الشعب ورسَّخ فيها الدين ثم توجه لتحرير فلسطين والأقصى من الصليبيين
تاسعاً : عدم الإستفادة وأخذ العِبر من تاريخنا المجيد
عاشراً : فقداننا للقيم النبيلة التي كانت تتحلى فيها أمتنا وأصبح حب المال والتعلُّق بالدنيا ومفاتنها هو الفيصل في أمور حياتنا ، ومن أجل ذلك تُباع الضمائر وتُشترى الذمم وتُتنهك الحرمات
أحد عشر : دور الإعلام الكاذب الذين ينشرون أخبار وأنباء كاذبة ، لا يعرف مصدرها وما مدى مصداقيتها ، عدا عن دور شيوخ النفاق الذين يُقدمون فتاويهم حسب أهواء سلاطينهم .
كل هذه العوامل السابقة ولَّدت الروح الإنهزامية في الأمة وجعلتنا أسرى لدى الآخرين ، وفقدنا حاسة إستقراء المستقبل وتوقع ما فيه من خيرٍ أو شر ، وقد أدرك أعدائنا هذه الحقائق فزينوا لنا الباطل ، وقبحوا لنا الحق فقبلته أنفسنا واستمرأته ضمائرنا ، فلم نعد نهتم لقضايانا وما يهمنا إلا متاع الدنيا ، وبهذا أصبحنا ننتقل من نكسةٍ إلى نكسة ومن نكبةٍ إلى نكبة ، وهذا ما نشهده الآن في فلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا ، وما المستفيد من كل ذلك هو الغرب الذي هو المُحرك لموقد النار ونحن نتقلب في داخل المرجل الذي ارتضيناه لأنفسنا .
وعلينا من أجل الخروج من حالة الوهن والضعف الذي نحن فيه علينا أن نبحث عن أسباب النصر ، والعودة إلى تاريخ أجدادنا للإستفادة من معاركهم وفتوحاتهم وانتصاراتهم المجيدة ، ونستشف منها شروط وأسباب النصر ، والتي هي كالآتي :
أولاً : وحدة الأمة بكل أشكالها ، فلم تكن إنتصارات أمتنا الإسلامية منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى نهاية الخلافة العثمانية إلا بتوحدنا
ثانياً : الإيمان وقوة العقيدة ، فالله عزَّ وجل يربط بين الإيمان والنصر ، فالإيمان هو المُحفز للطاقات وللنصر
ثالثاً : العبادة : وهي إنشاء مجتمع مسلم متمسك بدينه وعقيدته وتكون صلته بربه في كل جوانب حياته ، وفي كل عملٍ يقوم به ، ويكون مُخلصاُ لوجه الله
رابعاً : إعتماد مبدأ الشورى وإشراك الناس فيه
خامساً : إعداد الأمة وتهيئتهم مادياً ومعنوياً ونفسياً من أجل تحقيق أهداف شوروط النصر ، قال تعالى في سورة الأنفال – الآية 60 : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }
سادساً : الثقة بالله والتوكل عليه ، وإنَّ النصر يؤتى لمن كان عابداً ومؤمناً بالله عزَّ وجلْ ، قال تعالى : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ }
سابعاً : إتباع أحكام الله وإقامة حكمه في الأرض ، وإخماد الفتن التي تعصف بالأمة ، ولا يكون المستفيد فيها إلا الأعداء ، وأن يكون الدين كله لله
ثامناً : يجب إدراك أن قيمة النصر لا تأتي بدون المشقة والتضحية ، ولا تُعرف قيمة النصر إلا بالبذل والعطاء
ختاماً أقول إن أمتنا لا ينقصها أي شيء فهي حاملة أعظم رسالة في التاريخ وضعها بين أيدينا خير البرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وحبانا الله الخيرات والثروات التي هي عوامل قوة لنا ، ومن حيث القوة العددية فيتجاوز عدد المسلمين عامة ما يزيد عن مليار ونصف ، ولكن الآن كغُثاء السيل لا قيمة لنا أبداً .
من أجل أن ننتصر يجب أن تكون حربنا بداية بذاتنا وكبح شهواتنا وضد الدنيا وما فيها من شهوات ورغبات ، والتي أغوتنا عن رسالتنا وقضيتنا المركزية فلسطين ، فإن استطعنا أن نكبح جماح أنفسنا فسيكون لنا النصر بإذن الله ، فكونوا مع الله يكن معكم وينصركم بإذنه ، قال تعالى في سورة البقرة – الآية 214 : { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ }
صخر محمد حسين العزة
عمان – الأردن
31 / 8 / 2022