قراءة نقدية للأديبة / د. عتيقة هاشمي / بقصيدة للشاعر : عبد العزيز بحفيظ بعنوان (نيرون وغواية أنين)

 •عنوان القصيدة: (نيرون وغواية أنين)

•التجنيس: قصيدة نثر حداثية 🎶
•الشاعر : عبد العزيز بحفيظ 🇲🇦✍
•قراءة: د. عتيقة هاشمي- المغرب 🖊📚
________________
القصيدة:📖🖊
على مَدار السّاعة، العقاربُ
تنْخرُ بؤبؤَ حيْرتي،
تُزيلُ ما تبقّى من سُؤالِ
يُتمٍ قديمٍ،
بسماتٍ باهتةٍ
جوعٍ عاتمٍ.
لاَ الشمسُ باركتْ تعاسةَ
طفلٍ يصارعُ
غوايةِ أنينٍ.
رياحُ غُبنٍ عصَرتْ
ثديَ ثكلى بحنظلِ
كي تجوعَ القصيدةُ
تموتَ الوردةُ على هَديلِ
مزهرياتٍ،
نشُمّ قهْراً عطْرَ موْتٍ
ننتظرُ غُودُو
نُسائلُ أوزيريس عنْ نبتةِ خلْدٍ،
عنْ ولادةٍ بلا حدودٍ.
سيزيفُ على جبينِ وقتي
الضّائعِ، يَكتبُ وصِيّتَه لنَيْرُونَ
عسَى يترك حليبَ رُضّعٍ،
كرّاساتِ أطفالٍ
أوراقَ قصيدةٍ.
تَعُمُّ دواخلَنا براكينُ
انفجارٍ، لنْ يُطْفِئَهَا قارونُ
ولانيْرونُ.
سفينةُ نوح نحنُ،
نَشدُّ على بطوننا وَجَعَ
الحجارهْ،
مخاضَ العبارهْ
حتّى لنْ يَنسلٌ أبدًا قُنفذٌ
لمغارهْ.
___________________________
•مدخل:
إن العملية الابداعية لا تتم بمعزل عن الواقع. وإذا كانت طبيعة الواقع الذي صار يعيشه العالم العربي منذ منتصف القرن الماضي طغت عليه الصورائية التي فرضتها طبيعة التحولات الحداثية، فإن الأدب عموما، والشعر خصوصا قد تأثر بتلك التراكمات المعرفية، والخصائص الفيزيولوجية للذات الإنسانية، التي تؤكد أنها أكثر قابلية، وسرعة لتقبل التحولات الميكانيزمية للعمل الإبداعي، وبذلك سعى الأديب إلى المزج بين الوظائف اللغوية والوظائف الجمالية الاخبارية التي تؤديها الدلالات المضمونية للأعمال الإبداعية. من هذا المنطلق سنثير قضية أدبية شكلت مخاضا حقيقيا للتحول الذي عرفه الشعر والنثر والتفاعل بينهما لينتجا لنا شكلا جديدا اصطلح عليه بقصيدة النثر. هذه القصيدة التي عطلت أحد أهم مقوماتها في التعبير الشفهي وهو الأوزان غير أنها احتفظت بالإمكانات التعبيرية التخيلية والرمزية وكذا الإيقاع انطلاقاً من المستوى الصوتي، والصرفي، والتركيبي، والدلالي. هذا الأخير أعم وأشمل من الأوزان التي تنحصر في التفاعيل العروضية الخليلية. مما يدفعنا إلى طرح إشكال حول مدى تمثل القصيدتين موضوع دراستنا (نيرون وغواية أنين) للشاعر عبد العزيز بحفيظ، و (صمود) للشاعر عبد الرحمان بوطيب لقصيدة النثر الحداثية؟ وما الذي يجعلنا على يقين أننا أمام قصيدتين نثريتين حداثيتين؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في عرضنا المتواضع هذا .
•قراءة في العنوان والمضامين:
من خلال الملاحظة البصرية لبناء القصيدة، وفضائها الشعري، تبدو فنا مختلفا عن التمثلات السائدة التي راكمناها كقراء حول الشعر العربي، وهو ما يساعدنا في استخلاص دلالات نفسية وفكرية متفردة تؤدي إلى التمايز بين شاعر وآخر بعيدا عن التأثر بالوزن من جهة، كما يضعنا في مواجهة صريحة بين الشعر والنثر، واستحضار التحولات الكبرى على مستوى الكتابة، لنتساءل ما الدافع الذي جعل الشاعر بحفيظ يجنح إلى قصيدة النثر؟، هل هو قدرتها على استنطاق الواقع الإنساني الاجتماعي في تشظيه؟ أم أن الأمر مرتبط بالرغبة في كسر أفق الصور البلاغية، وتجاوز نظام التفعيلة، والتحرر من سلطتها أفقيا، والاندماج عبرها في رؤيا كونية تستحضر عبر باقي التقنيات الشعرية ذات الشاعر؟
(نيرون وغواية أنين) عنوان القصيدة، هو أولى العتبات التي تستوقفنا، ولعله مدخل مثير لشهية البحث في مغاليقه، هو عنوان يستضمر تركيبيا مقولة لسنية، مكونة من مبتدأ وأداة عطف ومعطوف عليه، ليظل الخبر رهينا بمحتوى القصيدة، وما حملته أسطرها. اما دلاليا فيحيل على ثنائية ضدية، بين شبح نيرون الرمز، وبين ما قد يصنعه الأنين في تحوله عن الألم، إن توظيف الشاعر لكلمة (نيرون) التي ترمز تاريخيا إلى الإمبراطور الروماني وإلى الدمار النفسي، الذي خلفه، يقول:( على مَدار السّاعة، العقاربُ تنْخرُ بؤبؤَ حيْرتي، تُزيلُ ما تبقّى من سُؤالِ يُتمٍ قديمٍ؟ )، يجعله يشخصن عمق المعاناة النفسية التي يعيشها، هذه المعاناة مرتبطة بالزمن الرتيب، وانحرافه إلى الأنين حيث يقَلِّب رفوف الذاكرة في ديمومة مستمرة وقابعة في أعماقه، وكأنه يعيش فراغا روحيا، حيث يغيب معه الشعور بما يحيط به ،فينحرف الأنين إلى الانتشاء، ويلقي به في جب عتمة السؤال عن الحياة، وعن النبض وعن القصيد. (نيرون) عنوان الدمار الإنساني والفكري، حيث الكل يكابد، يصارع، يحاصره الموت من كل جانب، الطفل الرضيع، والثكلى والورد، حتى الكلمة / القصيدة تصبح عاجزة/جائعة على احتواء المعنى، والمعاناة، يقول: (رياحُ غُبنٍ عصَرتْ ثديَ ثكلى بحنظلِ كي تجوعَ القصيدةُ)، تتضافر الطبيعة في تعميق حالة اليأس، والألم هاته، (لاَ الشمسُ باركتْ تعاسةَ/تموت الوردةُ على هَديلِ مزهرياتٍ) . هذا المخاض العسير يشرع الأفق أمام الانتظار، عله يكون الأمل في الخلاص عبر استدعاء (غودو) الشخصية الوهمية، عبثا ينتظر الشاعر، لأن الذي ينتظره لا هيئة له بل لا وجود، وما زال يسائل إله البعث والحساب أوزيريس عن الخلود، عن التحول إلى الحياة لكن العذابات باقية، وسيزيف في صعود ونزول من وإلى أعلى القمة، فيتجدد الألم بل يكبر متيحا لنيرون الجلاد مرة أخرى، وقارون العظيم المفتاح فيأتي على القريض، يثور الجمع والشاعر فيكون الطوفان وتكون سفينة نوح مركب النجاة، فتولد قصيدة نثر من رحم الوجع.
•الأسطورة:
تبدو الأسطورة من الوسائل الفنية التي استعملها الشعراء الحداثيون في قصيدة النثر للإيحاء بدل المباشرة، ولعل الشاعر بحفيظ في قصيدة (نيرون وغواية أنين)، قد استكمل بها ما عجزت الكلمة عن التصريح به، حيث نلفيه تجاوز إلى المعنى الداخلي، وقد كان سبيله في ذلك اللغة التي تحول عبرها من الواقعى إلى اللاواقعي، وكأنه استحدث لغة جديدة مشحونة بدلالات فكرية أعمق. إن توظيفه للأسطورة عبر أسطر القصيدة يجعلنا نستوعب المستوى الدلالي الثاني الذي يساهم في تقديم صور حسية تجريدية ارتقت بالمعنى. وأكاد أجزم أن الشاعر أقحمها في القصيدة عن وعي بمدى قدرته على خلق علاقات جديدة مرتبطة برؤيته كذات شاعرة، معتمدا في ذلك على التراث الإنساني العالمي والإسلامي، والثقافة اليونانية القديمة، حيث استحضر شخصيات أسطورية وأخرى تاريخية، وقصصا من التراث الإسلامي ( نيرون/ غودو/ سيزيف/ أوزيريس/ قارون/ نبتة الخلد/ سفينة نوح...)، وأخضعها لتجربته الشعورية. والحقيقة أنه استعملها بهدف بلاغي أكثر حيث نجد الرمز في القصيدة يحاكي واقعا معيشا هو واقع الشاعر ذلك أن أسطورة (سيزيف) تظل رمزا معاناة الإنسان، معاناة دائمة في الزمان والمكان، وكلما اعتقد أنه قد وصل إلى التخلص منها وجد نفسه يعيد المسار ذاته، حاملا همومه وآلامه، بل تتعمق الدلالة في أبلغ صورها حيث يوصي سيزيف نيرون الشخصية الجبارة المتغطرسة والظالمة، التي استدعاها من التاريخ رمزا على البشاعة الإنسانية في أحقر صورها. فيمتزج الرمز الأسطوري بالرمز التاريخي ليخلق مشهدا دراميا هو صورة من صور الحياة، حيث الألم والحرج عميق. إن رغبة الشاعر في تحدي تجربته، دفعته إلى أن يوظف أيضا رموزا من الطبيعة (ورد/ حجارة/ البراكين/ المغارة...) وكأنه يبغي التحرر من سلطة الدلالة المعجمية القريبة ويدفع بالقارئ إلى غواية استكشاف مجاهيل الإشارات والإيحاءات والغموض الفني، ولعلها نقطة التقاء بين الشاعر والقارئ.
•الإيقاع
لم يعد الشاعر الحداثي رهين التفاعيل الخليلية، ولا الأوزان العروضية، ذلك أن قصيدة النثر تحررت من سلطتهما، كما تحررت من ربقة البناء التقليدي، وجنحت نحو التجديد شكلا وإيقاعا ومضمونا. لذلك بات الشاعر الحداثي مجبرا على الالتزام بسمات أخرى، تجعله يتفرد عن غيره، فكان الإيقاع أبرز مظاهر التحول في القصيدة العربية حيث شكل كسر البناء العمودي صدمة إيقاعية فسحت المجال أما الشاعر للتعبير بشكل أكبر وأوضح، ثم إن الإيقاع لم يكن لينحصر في الألفاظ ومدلولاتها، وإنما تجاوز إلى الجانب الصواتي الذي يمتزج بخيوط القصيدة معنى ومبنى. وبالعودة إلى قصيدة (نيرون وغواية أنين) نجد أن الشاعر قد حقق نوعا من التمايز، حيث تمكن في قصيدته من تعطيل الأوزان العروضية المتداولة، وفي المقابل عمد إلى استغلال كل طاقاته الشعرية ليقدم للقارئ قطعة بلورية تفيض مشاعرا، وهو أساس قصيدة النثر. ذاك الدفق الشعوري الذي تجاوز الرومانتيكية في النص عبر وحدته العضوية إلى خلق نظام تصويري، تأرجح بين ألم السؤال والتيه والضياع، وحنين الخلاص من مخاضَ العبارهْ حتّى لنْ يَنسلٌ أبدًا قُنفذٌ لمغارهْ، وبين البياضات الموزعة في عبر ثنايا النص والتي تتحول بدورها إلى علامات دلالية تزيد من الكثافة الشعرية.
•الرهان
شكلت القصيدة بركانا فجر كل البنى الفنية الجمالية الغائية والدلالية والفكرية، وهي بنى متحولة تستجيب لإنسان هذا العصر، هذا الزمان والمكان، قصيدة حاولت كسر كل القيود لتتحرر وتتيح للشاعر فرصة تجسيد كل رؤاه ودواخله.
قد تكون صورة لـ ‏‏شخص واحد‏ و‏جلوس‏‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.