آثام في شكل حسنات...بقلم أ. ماهر اللطيف

 آثام في شكل حسنات

---------------------

عاد قافلا إلى بلدته من المدينة - حيث يعمل-  في نهاية الأسبوع كالعادة  لقضاء عطلته المعهودة بين ّأهله وأقرانه وجيرانه وأحبابه وخطيبته وأهلها الذين اشتاق إليهم وإلى التواجد بينهم لتجديد وتمتين المشاعر والأحاسيس وتقويتها - كما كان يقول دائما في السر والعلانية -.

وما إن مرق أنهج حيه حتى لا حظ في إحدى أزقته انتصاب خيمة بيضاء كبيرة توسطت الطريق العمومي  جلس تحتها جمع من الناس في شكل مجموعات وفرق وأحزاب من الشيب والشباب وحتى الأطفال من الذكور (والنساء في المنزل بنفس الكيفية والتقسيم والتصرفات) يتجاذبون أطراف الحديث بأصوات مرتفعة وعالية هنا وهناك ويحتسون ما طاب ولذ من القهوة والماء وغيرهما ويتبادلون البسمات والضحكات ومتعدد الإشارات والحركات حتى بات المشهد عبارة عن جمهور من المشجعين في ملعب كرة قدم - رغم أنه مأتم كما جرت العادة في هذا الوطن  ودلت عليه المراسم والطقوس ، إضافة إلى انبعاث صوت المقرئ وهو يتلو ما تيسر من القرآن من  مصادح مسجل منزل الميت أو الميتة-.

فاقترب من الجمع وقد اشرأبت الأعناق وتسمرت العيون نحوه و أطلق السلام على الحضور - ولم يبادله ذلك غير نزر منهم - وسأل أول من وجد بلطف وصوت منخفض  حتى لا يسمعه البقية :

- من الميت رحمة الله وغفرانه عليه؟

- ( بعد أن نظر إليه نظرة احتقار وتعجب وحرك حاجبيه وشاربيه ) الحاجة "وحيدة" رحمها الله ، وهذا موكب مرور ثلاثة أيام على موتها ( وهو ما نعبر عنه هنا ب "الفرق" ).فهل أتيت للعشاء ولم تعلم هوية المفقود؟

- ( مقاطعا بشدة وبصوت شبه مرتفع) لم آت لتناول أي شيء أخي فأنا في طريقي إلى منزلنا وقد عدت للتو من المدينة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع ولم أعلم بهذا المصاب الجلل ( ويتقدم نحوه أحد الصبية ليهديه كوبا من القهوة ، فيمتنع  ويقول  بلطف ولين) أشكرك بني والمعذرة فلست من هواة هذا المنبه ( فيحمر وجه الصبي الذي يبتسم في وجهه ويعود من حيث أتى)

- (مخاطبه بعد أن دقق في ملامح وجه الزائر الجديد واستنجد بذاكرته ) ألست "عبد الهادي " ابن المرحوم  الشيخ "سالم"، خطيب "ذكرى" بنت المعلم الفاضل السيد "التيجاني" والسيدة "علياء" (وعبد الهادي ينعم له برأسه وهو يتابع هذا السرد والعرض لتفاصيل حياته ومسارها من طرف هذا الشخص الذي لم يتذكره بعد )؟أخوك "عامر" عاطل عن العمل وأختك " ميساء" متزوجة من "رابح" ابن السيد "منتصر " الشرطي...

وبقيا كذلك برهة من الزمن وهما يتبادلان أطراف الحديث وعبد الهادي مستغرب ومشدوه إلى حدالصدمة مما يسمع ويلحظ (وهي ظاهرة متفشية في هذا المجتمع لا يختص بها محاوره فحسب ) ، قبل أن ينهض ويتجه صوب مجلس أهل الميت لتقديم واجب العزاء ولو متأخرا -وهو يجزم أن الجميع هنا يعذره بما أنهم يعلمون كل التفاصيل والجزئيات والمعلومات التي جعلته يتأخر في القيام بواجبه إلى حد الآن على غرار مخاطبه - وعيون الناس تراقبه وتتابعه باهتمام وترمق تحركاته وتصرفاته ولم تهتم آذانهم ولا عقولهم أو قلوبهم بما يبلغها من قرآن عساهم يهتدون ويعودون إلى الجادة ويتفكرون ويعتبرون...

ومنها ،هجر المكان ليواصل طريقه نحو بيت العائلة وهو يسترجع تفاصيل وفاة والده وما رافقها من تصرفات مماثلة وطقوس مشابهة منذ أكثر من عقدين عندما تجمهر الناس وهبوا فرادى وجماعات من أجل تقديم واجب العزاء بعد أن بلغهم نبأ الموت فهرعوا لمعرفة تفاصليه وجزئياته قبل أن يشارك بعضهم في تغسيل الميت وتعطيره ووضع كفنه على جسده الهامد - ثم تداولوا دون حياء أو خجل تفاصيلا رأوها على بدن المتوفي كمخلفات عمليات جراحية قام بها والد بطلنا وبقيت معلومة رغم مرور السنين فتفننوا في وصفها وتأليف القصص والحكايات الوهمية في شأنها كأن "يبدو أنه قتل ولم يمت موتة طبيعية ، فجسده به جراح وخدوش وكدمات عديدة في المكان الفلاني والمكان الفلاني وهو ينزف دما..."  و "من المؤكد أن ابنه العاطل عن العمل قد اعتدى على والده وضربه حتى الموت حين لم يعطه ما يرغب فيه من مال لإشباع غرائزه ورغباته من المخدرات وغيرها من السموم القاتلة التي تفشت بين الشباب وصغار السن..." وغيرها.،فوضعه على نعشه والمشاركة في الجنازة ما إن تم رفعه على الأكتاف وخرجوا به في اتجاه المقبرة ولم يكن يدعو له ويستغفر ويذكر الله إلا أهله وذويه وبعض الصادقين في حين كان الأغلبية ينقبون في مساوئه ونقائصه  أو يتحادثون في أمور أخرى وهم يتجهون مع البقية لقبر الميت وتركه في مثواه الأخير في انتظار يوم الحسم - وكان أهل القرية على غرار كل الأماكن في هذا البلد يقفون تعظيما وإجلالا لهذا الموكب كلما مر من أمامهم قبل أن يسألوا عمن يركب النعش ليشرعوا في استعراض ما يشاؤون حوله وحول أهله بصحيحه وما زادوا عليه وافتروا - ...

كما استحضر كيف كان يتصرف الحضور في المقبرة أين لاحظ عدم اكتراث الأغلبية وسعي البعض إلى استعمال الهاتف الجوال دون حياء والتحدث بصوت عال مع الإستنجاد بالقهقهة والضحكة من حين لآخر ، واشعال السجائر والتمتع باستهلاكها في هذا المكان الذي يتطلب الخشوع والذكر والدعاء للميت ، التجمع في مجموعات وفرق لتبادل الحديث في مواضيع حياتية مختلفة بعيدا عن التركيز علي حيثيات الموكب وما فيه من أعمال وخطوات عساهم يعتبرون ويعلمون ما سيحدث لهم غدا حين يحل أجلهم ،يتسابقون من أجل الظفر بأسبقية تقديم واجب العزاء لأهل الميت قبل الهرع إلى منزله للأكل والشرب والجلوس هناك لوقت طويل لعدة أيام....، وغيرها من العادات والطقوس البالية الدخيلة على المسلمين التي لا يمكنها أن تخدم الميت أو أهله بأي شكل من الأشكال....

وما زال كذلك حتى تنهد تنهيدة كبرى سمعها من مر من أمامه وهو يقول بصوت شبه مرتفع " متى نقلع عن هذه الطقوس والعادات ونعمل على استخلاص العبر منها ونهيئ أنفسنا لغدنا المنتظر؟ متى نكف عن عن هذه التصرفات ونقلل من التجمعات الواهية في الأفراح والمآتم ونقلب لهونا وزهونا ولهفتنا نحو الأكل والشرب وهتك أعراض الناس والتدخل في خصوصياتهم إلى دروس وعبر وحكم نتلقاها ونؤمن بها قبل أن نتخذها مرجعا ودليلا في بقية مشوارنا في هذه الحياة القصيرة تحضيرا لحياة الخلود؟....

--------------------------------------------------------------------------

بقلم : ماهر اللطيف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.