دمعةٌ على خدِّ مومياء / ربيع دهام
(دمعةٌ على خدِّ مومياء / ربيع دهام)
صفق باب البيتِ وراءه. أغلقه من الداخل بالشمع الأحمر.
تنهّد، وبيقين العرّافين أفصح:
" يا لهذا العالم التعيس.
عالمٌ فيه الحبُّ كذبةٌ،
وفيه الصداقاتُ كذبةٌ،
وفيه العلاقاتُ...كل العلاقاتِ ...
بل كل كل العلاقات كذبةٌ ".
ثم، بخفة خطوات، ترجّل نحو المرآة .
وقف أمام لوحة الزجاج الصامتة أمامه وهمس:
" ومن الآن وصاعداً، سيكون هذا الوجه الذي بتلك العينين يرقمني، هو صديقي الحقيقي الوحيد.
وسيكون صوته الذي ذبذباته يُسمعني، هو صوت حبيبي الحقيقي الوحيد.
وسيكون هو، وهو وحده، الأقرب، والأدفأ إليّ من برد هذا العالم".
ودخل غرفته.
صفق الباب وراءه. أغلقه بمزيدٍ من الشمع الأحمر.
وأقفل النافذة. وأسدل الستائر.
تأكّد من عدم تسلل أي بقعة ضوء، ولو بحجم مخلب ذبابة، إلى غرفته.
وهناك، تهاوى كطيرٍ نُزعت جناحاه على قمقم السرير.
طفق يكمل رحلته نحو التقوقع حتى تحوّل رويداً رويداً إلى محارٍ.
محارٌ في صدفة.
وهناك، في داخل الصدفة، داهمته أصواتٌ كثيرة.
كلمات تحيكها أفواه كثيرة.
ووجوه متعددة. وعيون وفيرة.
أجساد تقترب منه وتبتعد.
كلماتُ تتهامس لتسأل عنه.
تأثّر قليلاً.
شراراتُ الذكريات كادت أن تشعل حنينه السخيف.
لكنه، ذاك العنيد الجلف، امتنع.
تسمّر في صدفته.
لا. بل راح يمد يده إلى أعماقها. إلى ذاكرته. ويستل منها كل أحداث الزمن الماضي، وفي سلة المهملات، المركونة إلى جانب السرير، يرميها.
أصوات من كانوا معه. يكوّرها بين يديه، ويرميها.
وجوه من أحاطوه. يسحقها بين كفّيه ويرميها.
عيون من أحبوه – أو هكذا كان يظن – أيضاً يدهسها تحت قدميه ويرميها.
أيادٍ طرقت أبوابه. أصابع ربتت على كتفه. أذرع حضنته.
عباراتٍ محبة عاتبته.
كل شيءٍ صادفه على طريق الذكريات كان في سلة المهملات يرميها.
وبعد أن انتهى من ملحمة الرمي الكُبرى،
وبعد أن قذف بعيداً كل شيء، وكل كلمة، وكل ذكرى،
وكل دمعة، وكل ضحكة، وكل عبرة،
وبعد أن أصبح فارغاً خالياً من كل تلك الصداقات الكاذبة، والعلاقات الكاذبة،
وذلك الحب الكاذب الكبير،
ترجّل نحو المرآة.
مسح بخار العتمة عن زجاجها اللامبالي،
حدّق في الكائن العجيب أمامه.
لا وجه له. مثقوب الحلم والصدر.
لا قلب فيه. لا نبض.
شيءٌ يشبه المومياء المحنّطة في رفوف الإنتظار كان يتسمر أمامه.
ابتسم هو.ابتسمت المومياء.
قالت: "هكذا أفضل. حقاً أفضل. فعلاً أفضل.
أن أكون مخلوقاً بلا قلب أفضل".
ظل الرجل في مكانه.
وعادت المومياء، تجرُّ قدميها المثقلتين، إلى سريرها.
قدمها اليسرى تجافي يمناها.
تهاوت مجدداً داخل قمقمها.
صلّت إلى السماء شاكرةً.
لم تجبها السماء.
ضربت الأرض عرض الحائط.
جافتها الأرض.
مدت يدها نحو سلة المهملات مريدةً إبعادها.
قبضت على ناظريها ورودٌ جميلة تنبثق فرحةً من السلة.
أشجارٌ ، سنابل قمحٍ،
عصافير تغط على أغصان الشجر.
شخصان يتعانقان تحت المطر.
رأت فراشات تحوم حول الورد.
دغدغ منظر الفراشات والحبيبين والورد عينيها.
حتى أن الرحيق قد وصل إلى أنفها،
وأخذ يتسلل كالمندسين إلى صدرها،
وهناك، على صهوة الرحيق والعطور، ركبت أصوات أصدقاء عاشرتهم، وأحباءٍ سامرتهم.
دخل الأصوات صدر المومياء، ثم سقطت عبر الثقب الأكبر في صدرها، تدحرجت الأصوات متهالكة على السرير.
نفضت غبار الموت عن حناجرها، ثم حاولت الرجوع إلى المومياء.
حملتْ المومياء الأصوات ورمتها في سلة المهملات.
ثم ركلت السلة بعيداً.
بعيداً جداً.
" لا مكان لسخافات السلة، وكل ما ومن فيها، في حياتها بعد الآن"،
قالت هذا في نفسها وحاولت إغلاق عينيها.
حاولت النوم ولم تقدر.
استعانت بالشمع الأحمر مجدداً.
مرة أخرى حاولت إغلاقها، ولم تقدر.
وبعد لحظات صعبة، شبّ عليها وحش الأرق.
هربت وطاردها.
وهربت وطاردها.
ومرت الأيام والمومياء غريقة في الأرقِ الشديد.
تهرب ويطاردها،
وتهرب ويطاردها,
ومنذ ذلك اليوم، وإلى آخر يوم، لم يفارقها ذاك الوحش.
ومخالبه المسنّنة الحادة.
لم تعد تلك المسكينة في محارها تنام.
لا النومُ يفتح لها ذراعيه، ولا الأيام.
جنّت. جاعت. عطشت. ظمأت.
وبكتْ.
نعم بكت.
ولمّا بكت، مدّت نحو خدها لسانها، علها تطفئ ظمأها ببضعة دموع.
وبحثت وحفرت وصالت بلسانها، وجالت،
لكن لا... لم تجد على وجنتيها إلا الرمال.
تعليقات
إرسال تعليق