في ركن المقهى...أ. عبد العالي لعجايلية
في ركن المقهى
كان جلوسي في المقهى طقسًا متجذرًا في صباحي، كالعادة التي لا تُفارقني قبل أن أندفع نحو مصيري المرسوم في العمل. كل صباح، أفتح الجرائد، أستعرض الأخبار كمن يقرأ صفحات من ذاكرة جماعية تسرد أحداث الحياة اليومية. وفي كل مرة، كان ذاك الغريب يجلس بقربي، نظراته المتطفلة تلتصق بي كأشباح تراقب وجودي، كأنهما تسعيان لفك طلاسم ما وراء هذا الوجود.
في البداية، كنت أتجاهله، ولكن شعورًا غامضًا اجتاحني ذات صباح، فقررت أن أترك الجريدة وأسلم نفسي لفضول اللقاء. عندما التقت أعيننا، رأيت في عينيه عالماً مليئًا بالتأملات التي لم تُدون بعد، وكأنما كان يحمل عبء الأفكار الثقيلة. ساد بيننا صمتٌ عميق، جعلني أشعر وكأن الزمن قد توقف، وكأننا نشارك في حوار أبدي يختصر كل ما يمكن أن يُقال.
حاولت النهوض من مكاني، لكن صوته المبحوح اخترق حاجز الزمن قائلاً: "تأملتُ فيك نظرًا على مقامات الحرية، تلك الكلمة التي تختصر وجودنا وتعقيداته. منذ سنوات، انهارت فيَّ روح المكابرة والغرور، وتبدلت سعادتي إلى غربة، غربة تكشف عن خفايا النفس. أضحى تأمل النجوم هويتي، وكأنني أبحث عن النور في ظلام الحياة، تلك اللحظات التي تدل على حقيقة الموت."
توقفت عن التفكير في الوقت، وسمحت لنفسي بالاستغراق في حديثه. "سأقول لنفسي في اللحظات الأخيرة... ها أنا... الآن. ولكن، ماذا يعني الآن؟ هل هو مجرد زمن، أم هو دعوة لاكتشاف روحي بين طيات الكون؟"
صوت الشارع يتداخل مع أفكارنا، ضحكات زبائن آخرين، وصوت نادل يتحدث عن طلباتهم، كل ذلك كان كخلفية موسيقية تنسجم مع همسات الحياة اليومية. تذكرت ذكريات قديمة: تلك الأيام التي كنت أركض فيها خلف أحلامي، والأصدقاء الذين فقدتهم في زحام الزمن. كنت أسأل نفسي: هل كانت تلك اللحظات ذات معنى، أم كانت مجرد تكرار للحياة؟
"أتمنى لك حياة سعيدة"، قالها وكأنها دعوة للسير في دربٍ غير مرسوم. لكن جملته لم تكن مجرد توديع، بل كانت تنطوي على عمق فلسفي يجعلني أفكر في المعنى الحقيقي للحياة. بعد أن غادر، مختفيًا كنسيم بين ثنايا الذكريات، أدركت أن لقائي به كان تذكيرًا بأن الحياة ليست مجرد لحظات عابرة، بل هي مجموعة من التأملات العميقة والقصص التي تحتاج إلى من يستمع إليها.
في تلك اللحظة، بدأت أفكر في حقيقة الموت، وكيف أن كل لحظة نعيشها هي فرصة لنكتشف أنفسنا. هل يمكن أن يكون الموت بداية جديدة؟ هل يمكن أن نعتبره جزءًا من دورة الحياة، حيث ينتهي شيء ليبدأ آخر؟ تلك الأسئلة كانت تعصف بعقلي، مثل الرياح التي تعصف بأوراق الشجر في يوم خريفي.
هكذا، أدركت أن كل شخص في هذا المقهى يحمل قصة، وكل نظرة، كل ابتسامة، يمكن أن تكون بابًا لعالم جديد. الحياة، بجمالها وقبحها، تمنحنا الفرصة للتواصل مع الذات ومع الآخرين، حيث تكمن الفلسفة في تلك التفاصيل الخفية التي نغفل عنها في زحمة الحياة.
تأليف : عبد العالي لعجايلية.
تعليقات
إرسال تعليق