في متاهة النسيان...أ. عبد العالي لعجايلية

 في متاهة النسيان


حاولي ما شئتِ أن تفرِّي من أجنحة الذكرى، أن تذري صحائفها كريشٍ في مهب الريح، أن تُغرقين الذاكرة في بحرٍ عميقٍ بلا قرار ، اجتهدي في طيِّ الأيام الطوال، كما تطوى صفحات الكتب البالية التي عَصَفَ بها الزمن ، ولكن دعي لي فنجان قهوتي، ففيه من عبق الزمن ما يذكرني بكِ، ودعي لي نايًا يعزفُ على أوتار الحنين، يعلن بقايا ملامحكِ في أفق الزمان.


كنتُ دومًا فيكِ، في نبضاتكِ وسكونكِ، ماءً رقراقًا يسري في أوردتكِ، ونسيمًا هادئًا يعانقُ مساماتكِ، كلما ابتغيتِ الفرار، كلما سعيتي لاقتلاع جذوري، وجدتي أنني أرسى في أعماقكِ، كالشجرة العتيقة في حضن الأرض ، أحاول أن أكون كالسّر الذي يسكن أحشائكِ، لا أراه إلا من خلال شغاف قلبكِ، ولا أسمعه إلا في صمتكِ الصاخب. تحاولين الهروب، وكأنكِ تظنين أن النسيان هو البوابة إلى الحرية، ولكن هيهات، فإن كل خطوة نحو الهروب هي خطوة أعمق في دوامة لا تَخِر.


هل تُدركين أن ما تظنينه هروبًا، هو في الحقيقة عودة إلى ذاتكِ .

 هل يُمكن للإنسان أن يفرَّ من نفسه ...؟

 أو أن يهرب من تاريخٍ كتبته يداه في لحظاتٍ من الألم والجنون..؟ ، النسيان ليس هروبًا، بل هو رغبةٌ مستميتة لقتل تلك الأجزاء التي لا تكف عن العودة، للتمرد على الذاكرة التي تأبى أن تذبل، كزهرةٍ تغني للربيع وهي تعرف أن فصلها قد انقضى.


ارحلي إذن إلى أقاصي الأرض، إلى البقاع التي لا تلامسها أطياف الذكرى ولا تتسلل إليها أصواتنا ، إغسلي عينيكِ من شواهد الماضي، واغسلي قلبكِ من أطياف الحنين. لكن لا تُخدعيني، فأنا لا أحتاج إلى المسافة كي أكون معكِ، ولا أحتاج إلى الزمن كي أقتحم فضاءكِ ، سأظل ظلاً متمددًا في أروقة روحكِ، كحلمٍ لم ينقضِ بعد، كصدىً يتردد في الجبال العالية.


فالنسيان، إذاً، ليس حلًا، بل هو إخفاءٌ لفكرةٍ أكبر، فكرة الذات التي تقاوم الهروب، تقاوم الفناء ، هل تستطيعين إيقاف محيطٍ جارفٍ بمقدار خطوةٍ واحدة ..؟ ، هل تستطيعين أن تُطفئي شعاعًا ضوءًا في فضاءٍ موغلٍ في السكون ...؟ ، أنا فيكِ، في كل تَفَصٍّ في كيانكِ، في عيونكِ التي رأَت كل شيء، وفي كلماتكِ التي كانت تجيب على تساؤلاتٍ لم تُطرح بعد.


العشق الذي كان فيكِ، والذي ظل يتنفس في شرايينكِ، لن يموت، كما لا تموت الكلمات التي تكسرها الرياح ، فما العشق إلا ريحٌ تذهب، لكنها لا تمحي الأثر، بل تتركه على صخور الذاكرة. كيف تُحاولين قتلَ جزءٍ منكِ ..؟ ، كيف تنسفين كيانًا كانكِ قد تبنيته في لحظة ضعفٍ، وفي لحظة تجلٍّ ..؟ ، فإن العشق، كما النهر، لا يمكن أن يجف، فهو دائم الجريان في تضاريس الروح، يمرّق الأحلام والمخاوف في مساراته المعقدة.


وأنتِ، وإن حاولتِ أن تفرّي مني، وإن جاهدتِ كي تغسلي يديكِ من عذابات الذكرى، ستجدينني دائمًا في مكان ما، في ظلٍ غير مرئي، في زمنٍ لا يُمسك ، فأنا الضوء الذي يغزو الظلام، والريح التي تلامس جلدكِ في ليالي الوجع. لا الهروب، ولا النسيان، يستطيعان أن يفصلاني عنكِ. لأننا، في النهاية، مُتعلقون بالذاكرة، لدرجة أننا نعيشها ونموت بها.


عبد العالي لعجايلية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مناجاة روح...زهور الخطيب

علامة إستفهام؟فتحي موافي الجويلي

تحايا...توفيق السلمان