" غربة الروح "...أ. عبد العالي لعجايلية
" غربة الروح "
في أعماق الوجود، حيث تنحني الكلمات عاجزة عن وصف ما يعتري الروح، تبدأ حكاية الغربة، ليست غربة الجسد عن موطنه، بل غربة الروح عن ذاتها، تلك اللحظة التي يصبح فيها الإنسان غريبًا عن أناه، كأنما يحمل داخله مدينةً مهجورة، تضيع ملامحها بين الحقيقة والوهم.
الروح، ذلك الكائن اللامرئي، تتخبط بين نسخٍ متداخلة من الذات، كل نسخة تحمل ملامحها، لكنها ليست هي.
أهي أنا الحاضر؟ أم أنا الماضي الذي لم يغب؟ أم أنا الآخر الذي لم أكنه؟ وهكذا، في تيه الهوية، تصير الروح مثل مرآة متصدعة، تعكس أجزاءً متناثرة، لكنها لا تقدم صورة واحدة كاملة.
وكما يتوه المسافر في صحارى الزمن، تتوه الروح في متاهات البحث عن معناها. تسير في دروب الوعي، لكنها لا تصل إلى يقين، تلمس أطيافًا من الإجابات، لكنها لا تمسك بها. أيُّ غربة أشد وطأة من أن تجد نفسك تائهًا داخل حدودك؟ أن تسكن جسدًا يعبر الزمان والمكان، بينما روحك تظل عالقة في برزخٍ بين الحلم والحقيقة؟
في تلك الغربة، يتجلى الصراع الأبدي بين الإنسان وذاته، بين وجوده وعدمه. هل الروح حقًا تبحث عن وطنها، أم أن الغربة هي حالتها الطبيعية؟ هل يمكن أن تكون الغربة طريقًا نحو الإدراك الأعمق، أم أنها سرابٌ تلتف حوله الأرواح لتبرر ضياعها؟
الروح الغريبة، تلك التي تُولد من وجع الأسئلة، قد تكتشف أن غربتها ليست ضعفًا، بل هي صرختها ضد الرداءة، وتمردها على الصور الجاهزة.
إنها الروح التي تسأل بلا توقف، التي تهيم في اللانهاية بحثًا عن نفسها، عالمةً أن كل إجابة ليست إلا بابًا يفتح على سؤال جديد. وربما، في لحظةٍ ما، تدرك أن الغربة ليست سوى انعكاسٍ لحريتها، وأن التيه هو دربها نحو ذاتها المتجددة.
"غربة الروح" ليست قصة حزنٍ أو ضعف، بل هي نشيد البحث، ومعراج السؤال، وحقيقة الإنسان الذي لا يهدأ حتى يلمس جوهره، وإن كان الجواب، في النهاية، هو الصمت ذاته.
عبد العالي لعجايلية
تعليقات
إرسال تعليق