"خدعة صغيرة للرّوح"..ورود نبيل
"خدعة صغيرة للرّوح"
سأجلس الليلة أمام قلبي كما يجلس أبٌ أمام طفلٍ عنيدٍ يبكي من دون أن يعرف السّبب، سأحاول أن أضع له حكاية صغيرة، حكاية لا يهم إن كانت صادقة أم لا، يكفي أن تكون قادرة على تهدئته؛ فالقلب أحيانًا لا يحتاج إلى الحقائق، بل إلى أكاذيب حنونة تُقنِعه أنّ الغد لن يكون نسخةً أخرى من وجع اليوم.
سأخبره أنّ الغائبين لم يرحلوا بعيدًا، بل أنّهم فقط ضلّوا الطّريق، وأنّهم يقتربون مع كلّ نبضة، وأنّ الغياب ليس سوى استراحة مؤقتة قبل اللّقاء، سأقسم له أنّ الأماني المكسورة لم تتفتت، بل تحولت إلى بريقٍ يتناثر في السماء، وأنّ النّجوم التي يراها كلّ ليلة ليست إلّا أحلامه المخبّأة، تنتظر اللّحظة المناسبة كي تهبط إلى يديه.
سأقول له: نم يا قلبي، فأنت لم تخسر شيئًا، أنت فقط تغيّرت، والتّغيير مؤلم، نعم، لكنّه الوجه الآخر للنّمو. ألم تتفتح الورود بتمزق البراعم؟ ألم يولد النّهار من صرخة الفجر؟ كذلك أنت، ستصحو يومًا لتجد أنّ كلّ ما كسرَك كان يرممك سرًّا، في مكانٍ أعمق مما تظن.
وسأهمس له أنّ الوحدة ليست حكمًا بالسّجن، بل نافذة يرى منها نفسه بوضوح، وأنّ الصّمت الذي يرهقه ليس فراغًا، بل فسحة كي يسمع صوت روحه، أليس الإنسان أكثر صدقًا حين يجلس وحيدًا في اللّيل؟ حينها يعرف ما يريد حقًا، وما لا يريد أن يعترف به أمام الآخرين.
سأضع على أذنه خدعة أخرى: أنّ الحبّ لم يمت، بل غيّر مكانه، وأنّه سيعود في وجهٍ آخر، في يدٍ أخرى، في ضحكةٍ لم يتوقعها، قد لا يشبه الماضي، لكنّه سيشبه الحاجة العميقة للحنان، وسأقسم له أنّ القلوب مهما نزفت، تعود وتحبّ، فالحب ليس خيارًا، بل غريزة تشبه التّنفّس.
ثم أزيده كذبة أجمل: أنّ ما ينتظره أجمل بكثير مما فقده، وأنّ الخسارة كانت مجرد اختبار للوفاء بداخله، وأنّ الله لم يضع في دربه ألمًا إلا ليُعدّه لهديةٍ أكبر. سأقول له: ألا تعلم أنّ الله يخبئ لك شيئًا يليق بكل هذا الصّبر؟
وحين يهدأ قليلًا، سأغطيه ببطانية الكلمات: الغد لن يخونك، واللّيل لن يبقى للأبد، والحلم الذي ظننته بعيدًا يقترب ببطء، تمامًا كما تقترب الشّمس من نافذة الصّبح، حتى لو أنكر اللّيل ذلك.
ثم أقترب أكثر وأبوح له بسرّ: حتى إن لم يتحقق شيء مما وعدتك به، فالكذبة نفسها قد تنقذك الليلة، قد تمنحك نومًا هادئًا، وبعض الأحلام الوردية التي تعيد ترتيب فوضاك، أحيانًا لا نحتاج إلى الواقع كي نعيش، بل إلى خيالٍ يكذب علينا برفق.
وسأواصل حواري معه: يا قلبي، لا تحزن على من رحل، فالرّحيل اختياره، لكنّك اخترت البقاء، ولا تنكسر أمام خيبةٍ أخرى، فالخُيَب ليست إلا دليلًا على أنّك ما زلت تحاول، أنتَ على قيد الإصرار، وهذا يكفي.
ثم أمدّ له يدًا من الكلمات الدّافئة: اعلم أنّ اللّيل حين يشتدّ سواده، لا يكون إلا إعلانًا عن اقتراب الفجر، وأنّك حين تنهار تمامًا، فهذا يعني أنّك صرت جاهزًا لتُبنى من جديد، لا تخف من دموعك، فهي الماء الذي يغسل داخلك من ثِقل الأيام.
وأخدعه بخرافة أخرى: أنّ من أحببته يومًا لا ينام إلّا وهو يذكرك، وأنّه يتألم كما تتألم، وأنّ القدر قد يخبئ له عودة مفاجئة إلى حياتك، حتى لو لم يكن هذا صحيحًا، يكفي أن يبتسم قلبي وهو يتخيّل ذلك المشهد.
وأخيرًا، سأقول له بصوتٍ يشبه صلاة: نم مطمئنًا، فأنت لست وحدك أبدًا، هناك ربّ لا ينسى، وهناك غدٌ لم يُكتب بعد، وهناك روحك، أقوى مما تظن.
سأتركه ينام وهو يصدّق أنّ السّلام قريب، حتى لو لم يأتِ؛ لأنّ الإيمان بالطّمأنينة أحيانًا أكثر شفاءً من الطّمأنينة نفسها.
وهكذا، بالكذبة الصّغيرة التي نسجتها اللّيلة، لن أُنقذ قلبي من الواقع، لكنّني سأُنقذه من الانهيار.
وإن سألني قلبي غدًا: أين وعودك؟ أين الذين قلتِ أنّهم سيعودون؟ أين الأحلام التي وعدتِني بها؟
سأبتسم كأمٍ تخدع طفلها بقطعة حلوى، وأجيبه: اصبر قليلًا، ما زال الطّريق طويلًا، وكلّ ما تنتظره قادم في حينه.
فالقلب لا يعيش على الحقائق وحدها، بل على جرعة من الأمل حتى لو كان وهمًا، إذ يكفي أن يُبقيه حيًّا.
وسأخبره أنّ الماضي لم يكن خيانة كما يظن، بل تدريب على أن يحمل نفسه وحده.
كلّ لحظة كسرته كانت تضع في داخله حجرًا صغيرًا، وحين يكتمل البناء سيكتشف أنّه صار قلعة لا تهزّها الرّياح.
سأقول له: كل الذين غادروا ما كانوا إلا فصولًا في كتابك، انتهى دورهم، وسيأتي غيرهم، أنت لست فارغًا كما تشعر، أنت مليء بالقصص التي لم تبدأ بعد.
ثم أهمس له بكذبة أجمل: أنّ الغد يخبئ له لقاءً لم يتخيله، لقاءً يذيب وحدته دفعة واحدة، وأنّ الرّسائل التي لم تصله ستصله ذات صباح، وكأنّ البريد تأخر قليلًا لا أكثر.
سأجعله يتخيل بابًا يُطرق فجأة، ووجهًا مألوفًا يقف خلفه مبتسمًا، وكأنّه لم يغب يومًا.
وحتى إن لم يأتِ أحد، ستكفيه هذه الصّورة لينام مطمئنًا.
وسأغني له أغنية خفيّة: أنّ لكلّ جرح ذاكرة، لكنّه لا يبقى مفتوحًا إلى الأبد، النّدبة دليل قوة، لا ضعف،
والألم حين يُروى بالكلمات، يصبح أخف وزنًا ممّا كان.
سأقول له: أنت يا قلبي شاعر أكثر مما تظن، فكل ما نزفتَه يتحول قصيدة، وكل ما فقدته يصير معنى.
ثم سأخدعه مرة أخرى: أنّ الحياة ليست بهذه القسوة، بل هي تختبره فقط.
وأنّ السّماء تسجل كلّ صبره، وتعدّ له لحظة تعويض ستأتي فجأة، في يوم لا يتوقعه.
قد يكون في كلمة عابرة من غريب، أو في ابتسامة طفل، أو في صدفة صغيرة تقلب موازين روحه.
سأضع رأسه بين يديّ وأهمس: نم الآن، فحتى الجبال تنام، وحتى البحار تهدأ، وأنت لست أقوى من الطّبيعة كي تسهر على وجعك وحدك.
سأجعله يصدق أنّ النّوم ليس هروبًا، بل وعدًا بلقاء جديد مع ذاتٍ أخف وزنًا وأكثر إشراقًا.
وإن استيقظ غدًا ليجد أنّ شيئًا لم يتغير، فسأعيد خدعتي من جديد؛ لأنّ النّجاة أحيانًا ليست في الحقيقة، بل في التّكرار المستمر لأكذوبة جميلة، حتى تتحول الأكذوبة يومًا ما إلى يقين.
فالقلب لا يطلب الكثير، يكفيه أن يصدّق أنّ وراء كلّ هذا الظّلام، ضوءًا ينتظره، وأنّ وراء كلّ انكسار، حياة تُعاد صياغتها بشكل أبهى.
وهكذا، سأخدع قلبي اللّيلة كما أفعل كلّ ليلة،
لا لأنّني أحب الكذب، بل لأنّني أؤمن أنّ الكذبة التي تمنح الطّمأنينة، أصدق من حقيقة تزيد الجرح نزفًا.
سأتركه ينام وهو مطمئن أنّ الغد أوسع، وأنّ الله أقرب،
وأنّ ما كُتب له سيجده في حينه.
وحين يغفو، سأغفو معه، ممتنة لهذه الخدعة الصّغيرة،
التي جعلتني أبقى حيّة حتى هذه اللحظة.
الكاتبة: ورود نبيل محمد
تعليقات
إرسال تعليق