من رواية " ندوب الأمكنة المضيئة"..سيف الدين علوي
غفا نبيه لوهلة في حلم اليقظة.. لماذا دارت مثل تلك الخواطر في ذهنه؟ لعلّه كان يشتهي الأنوثة.. لكنّه الآن، في لحظة الحرمان يلعن أنوثة الزّجاج و مرايا الصّورة ـ الصّورة التي لا تتجسّد.. هو ذا يلعن المرآة التي لا تتحوّل إلى لحم طازج ذي بُخار.. في الأثناء كانت زوجته قد تيقّظت و كانت تتّجه إلى حيث الضّوء و الهدوء في الصّالة.. كان نبيه متردّدا بين الاستسلام للحْم الزّجاج و بين النّظر إلى مرآة الدّاخل.. كانت صور مرآة الدّاخل و صور مرناة الخارج تتناظرُ و تتناطح:
"لماذا يعنّ للضّمير أن يصحو في لحظات ما كان يجدر له أن يصحو خلالها؟" (إنّ تناظر المرايا علامة على صحو الضّمير و يقظة الرّقابة: تلك منطقة التردّد بين الجسد الحالم و الأخلاق الصّارمة و العقل الشّرس).. لم يكن نبيه قد ذاق عُـري زوجته منذ ما يناهز - أو يتجاوز - السّنتيْن (لماذا نكرّر قول هذه الجملة؟ أيكون ذلك بدافع التماس عذر أخلاقيّ لسلوك يوحي صاحبه بالشذوذ، أم هو من باب التّذكير السرديّ فقط؟).. ذلك الحرمانُ كان قد رَبّـــَـــى لديه شعورا بأنّه مقموع مضطهد.. ثمّ ولـّـدَ لديه ذلك الشّعورُ بأنّه ذكورة متلفةٌ، طاقة من الفعل و الأداء المهدور !! ألا يوجد لحالةٍ مثيلةٍ من حَلّ شرعيّ.. ربّما لو كان قادرا على منكح المثنى و الثلاث، لأتيح له أن يستثمر تلك الطّاقة الحيّة في إثبات الذّكورة المصونة المكتفية، و لما كان ابتغى وراء ذلك سبيلا..( لا ننسى أن نشير إلى أنّ هذه الوضعيّة جديدة ،كانت نشأت تقريبا بعد زواجه من المرأة التي أحبّ،أي بعد شعوره بضرورة التعفّف و الالتزام بحبّ رفيع، ذي الرّوح الواحدة و الجسد الواحد.. و الجدير بالإضافة كذلك أنّها وضعيّة مفارقة إلى حدّ كبير، لوضعيّته قبل الزّواج، لا سيّما إذا ما ألقينا نظرة على ما كان يحدث في غرفة عبد الجبّار)..
حين كان نبيه ما يزال غافيا فيما هو يحلّل عالم الباطن، تكون أحلام قد وصلت إلى الصّالة و أدركت التّلفاز مُضاءً على السّوءات و الإيروتيكا اللاّهبة.. كان عليها آنذاك أن تشدخ رؤوسَ المُواء..
قالت لزوجها بلا تردّد:
" هذا من رواسب ماضيك العاهر! لم يئن بعد أن يهدأ صوت شيطانك القديم فيخشع قلبك، و تسكن جوارحك؟ لم – و لن - تهتد روحك لمرفأ آمن ..
ــــــ ... ... أتفرّج... أتفرّج على فيلم ساحر!
ــــــ تتفرّج على فيلم ساحر؟! لم تكتف بما كان يجري في كنفِ سيّدكَ من أفلام الواقعيّة السحريّة ؟!
لوهلة اعتقد نبيه أنّ زوجته، أمكن لها أن تستعيد شيئا من نشاطها اللغويّ العاقل.. لا شيء يشي بأنّ حديثها كان خارج المنطق المفترض.. بل من المنطق أن تغضب الزّوجة وقد ضبطته يَنشد متعة حراما بعيدا عن حقل أنوثتها، وإن كان ذلك الحقلُ منيعا و ثمارُه نائية.. و من المنطق أن يتبلور لديها موقف غيرة غاضب.. لكنّه تساءل دون أن يجرؤ على السؤال المباشر:
" أو كانت على علم بما كان يدور في تلك الشقّة؟"
عنّ له أن يسألها، لكنّه راح يتّقي جنونها المفاجئ بالصمت حينا و مسايرتها في الحوار آخر.. و بقدر ما تحرّج في دخيلته بقدر ما تيقّظ فيه حسُّ الزوجيّة.. دفعه ذلك إلى القيام من متكئه.. ودّ ان يقول لها: "هذه بادرة طيّبة".
لكنّه لم يقل درءا لردّة فعل متهوّرة قد تصدر عنها.. ودّ لو تجالسه، ربّما لو فعلت تسنّى لها أن تتنبّه لأنوثة تتعفّن، أو هي بـصدد الانخراط في الطور السّابق للنّفاد.. ربّما لو فعلت تسنّى لها أن تتنبّه لذكورة تتيبّس ،هي بدورها، و تنخرط في طور هذيان الجسد. . ربّما لو فعلت لاجتاحتها وخزة من غريزة دفينة ، قمينٌ به أن يحوّلها هو بعد ذلك، إلى لحن مسائيّ صاخب، ( و رومنسيّ، كما كانت تفضّل هي أن تكون تلك اللّحظات).. ظنّ نبيه لحين أنّ للغيرة منحى إيجابيّا طالما كانت قادرة على تفعيل رواكد الحسّ، وإحياء ذبذبات الجسد المتماوت.. لعلّه استعاض عن التحرّج باللّهفة، ثمّ بالأمنية التي سوف يغذّيها الخيال.. لعلّه ندم على أنّه لم يتفطّن إلى أن يبادر إلى مثل ذلك المثير قبل ذلك الأوان: "المرأة تحرّكها المرأة.. المرأةُ تدفع بالمرأة إلى الهوس، إلى حافّة الجنون،حيث يصير الهذيان غابة من ركام اللاّمنطق.. ليكن، حتّى و لو كانت صورة من زجاج، مِـرآة افتراضيّة، جسدا نائيا.. و لم لا؟ إذا كانت تلك المرأة الصّورة قادرةً على تحريك سواكن المتعة عن بـعد، فكيف لا تكون لها ذات القدرة - بل ما يفوق تلك القدرة- على تحريك دفائن الغيرة و استثارتها على نحو مرَضيّ عاجل؟" .. هكذا انداحت هذه الأفكار لوهلة.. إذن،كلّ شيء كان في ظاهره على صلة بالمنطق الطّبيعيّ للأشياء، باستعادة العقل نشاطه السّالف قبل بدء نوبات الهذيان المهستر..
تقدّمت أحلام باتّجاه التّلفاز نائية بجانبها مشيحة عن مرأى زوجها. هشّ لاستقبالها صاديا. و كانت السّوءات حينئذ غير مخصوفة.. لم يكن ثمّة توت ولا شجرُ جنّة.. لم تكن نيّة الخصف موجودة أصلا.. لم يحرّك نبيه جهاز التحكّم عن بعد.. لم يقم بأيّة حركة سوى التحفّز لاستقبال زوجته.. واجهت أحلام التّلفاز. وعلى مرأى من زوجها، سحبتْ من يدها عصا المهراس النّحاس، وطرقت بها الشّاشة طرقات متتالية:
" هكذا ينبغي خصف السّوءات"..
قالت. ثمّ استدارت نحو نبيه، وكان مشدوها، لتضيف:
ـــــــ ابحثْ لك عن فرجة في مكان قذر.. إذا أردت الفرجة فالتمسها مع خليلات عرْفك عبد الجبّار في بعض مواخير الدّولة الموقّرة،أو في دور الخناء أو ما شابه"..
ـــ أحلام! مابك؟ ماذا فعلتِ؟(يصمتُ قليلا...) جرحتكِ الغيرة حتّى دفعت بك إلى فعل شنيع.ـ لقد هشّمتِ التلفاز؟
ــــ غيرة!؟ تقول غيرة!؟ ممّن أو على من؟
ثمّ صمتتْ فجأة .. اكتفت برفع العصا النّحاسيّة.. شهَرتها في وجهه.. كانت توشك أن تهوي بها عليه.. بدا واضحا أنّها كانت قادرة على فعل ذلك في أيّ لحظة.. فعلت ذلك بلا تردّد مع القطّة.. و توعّدت القِطّ بذلك.. و الآن أمامها قطّ بشريّ.. ويمكنها تسديد الضّربة بشراسة. لكنّه بمحض تذكّر وعيدها للقطّ صار مستعدّا لتلافي أيّة حركة.. لكنّها تردّدت في الإهواء، و صرختْ:
ـــــــ إن لم تنصرف صرفتك الآن إلى جهنّم.
ـــــــ طيّب. دعينا نتفاهم بهدوء.
ـــــــ إنْ لم تنصرفْ الآن هشّمتُ رأسكَ أو رأسي..
ـــــــ طيّب.. سأنصرف.. اهدئي.. ها أنا أنصرف..
خرج نبيه.. كانت اللحظة فزعة.. كانت مدعاة لخوف حقيقيّ: التّهديد بالقتل بتهشيم الرّأس، خاصّة بعد طرْق الشّاشة، لحظة عمياء... إنّ الطّاقة التي تدفع بكائن أنثويّ، كان يُشهَد له بالنّعومة و الوداعة، إلى إشهار آلة قتل في وجه أكثر النّاس حميميّة له، لاشكّ أنّها طاقة جنون تخرج حدود سيطرة العقل الضّابط.. ههنا تتعدّد مصادر الخوف: خوف من قتل الآخر، خوف من قتل النّفس، خوف من الانهيارات الكبرى التي تكون حينئذ بديلا فوريّا لدافعيّة القتل المحبطة..
وهو ينصرف تناهى إلى سمعه ضجيج سقوط الآلة النّحاسيّة على القاعة.. فكّر في أن يعود على عجل، لكنّه امتنع حالما سمع نحيبا حزينا قبالة التّلفاز المهشّم الجريح..
رنّ في نفسه ضجيج أسئلة عديدة: هل أنّ السّوءات اختفت بمجرّد تحطيم مصادرها؟ هل فعلت أحلام ما فعلت بدافع غيرة تفشّت عفويّا فجائيّا، أم أنّ المعاني العليا ،حين تتفكّك في ذاكرة المرء فيشهد احتراقها و كيف تتخطّف رمادَها السّافياتُ، يسوقه ذلك فعلا إلى هذيان أعنف؟
في ساعة متقدّمة من اللّيل، كان نبيه يتسكّع ضالاّ.. كانت الأسئلة المتّقدة تتأرجح في ذهنه فيقشعرّ لها الجلد أحيانا.. لكنّه كان يهتدي من حين لآخر كيف يواسي روحه الفزعة:
عليك اللعنة عبدَ الجبّار ! وأنت أيتها الدّولة! سأتعلّم كيف أشفي منكما غليل زماني الصّادي.. طوبى لدولتنا بنا أم طوبى لنا بها !
----------------
سيف.د.علوي
من روايتنا
" ندوب الأمكنة المضيئة"
تعليقات
إرسال تعليق