قطار العمر // بقلم أ. سعيد إبراهيم زعلوك

 قطار العمر


قطار العمر يمضي… لا يمهل متأخرا،

ولا يلقي التحية على من فاتهم المسير.

العجلات تطرق كقلوب مثقلة،

والنوافذ مرايا تعيد وجوها تكسرّت،

ترفعها ثم تسقطها كورق يابس في مهب الريح،

كأن المكان يبتلعنا،

وكأن الزمان يضحك من بعيد.


امرأة شابة تمسك بطنها المنتفخ،

كأنها تحتضن كوكبا سيولد قريبا،

تضحك وتبكي في وقت واحد،

تمسح عرق الخوف عن جبينها،

وتخبئ في عينيها قوس قزح لم يظهر بعد،

تحدث جنينها: "هنا العالم صعب،

لكنّك نوري الوحيد."


وعاشق يجلس في الزاوية،

يضم وردة ذابلة إلى صدره،

يسقيها من دمعه،

كأنه يرجو أن تعود إليها الحياة.

يحادث مقعدا فارغا،

يخبره بأسرار لا تُقال،

ويبتسم للحظة، ثم ينكسر،

كأنه يسمع خطى حبيبة غادرت في المحطة السابقة،

وتركَت في قلبه صدى لا يغيب.


وشاعرة تخط على الزجاج كلمات تتبخر سريعا،

تكتب بالعين لا بالقلم،

وتنسج من الضباب قصائد تنهار قبل أن تكمل بيتا.

تركض وراء الوقت،

تطارد ظلها،

وتكتب على الماء كي لا يسرقه أحد.


وعجوز يخرج صورة مهترئة من جيبه،

يقلبها ببطء،

يحادثها كما يحادث من ينتظره منذ زمن بعيد.

يغمض عينيه، ويبتسم،

كأنه يعرف أن الموت ليس غيابا،

بل موعدا آخر للحب.


وطفل يعدو بين المقاعد،

يسقط ويضحك،

تتدحرج حلوى صغيرة على الأرض،

يمسكها ويعيدها إلى فمه،

فتصبح في طعمها كالسعادة الأولى.

صوته يعلو ضاحكا،

فيستيقظ القطار من ثقله للحظة،

ويدرك أن الحياة ما زالت قادرة على الفرح.


وبائع متجول يصيح: "ماء… كعك… حظ سعيد!"

يحمل في صوته أكثر مما يحمل في يديه،

ويعرض وهما صغيرا،

كأنه يخفي في بضاعته قدرة على التحمل.

ينادي، يتعب، ثم يبتسم بلا سبب،

كأنه يعرف أنه بين الغرباء وجه متكرر،

وأن رزقه صوت لا ينقطع.


وغريب يحمل حقيبة بلا اسم،

يقلب جواز سفر مختوما بالتيه،

يحدق في الفراغ بعينين مطفأتين،

كأنه يبحث عن وجه لم يُخلق بعد،

أو عن خطوة تاهت في الأبد.


وتائه يسأل كل راكب: "إلى أين يمضي القطار؟"

فلا يجيبه أحد.

يضحك كالمجنون،

ثم يغمض عينيه ويترك للعجلات أن تجيب،

فصوتها يقول: "ليس الأهم أن تصل…

بل أن تسير."


وفي القطار تتجاور الولادة والموت،

ضحكة تدغدغ دمعا،

وروح تغادر وأخرى تولد في اللحظة نفسها.

وجوه تتلاشى،

وأخرى تتفتح كزهر على نافذة،

ومقاعد تحتفظ بأسرار لا يعرفها أحد.


قطار العمر يحملنا جميعا،

يكسرنا، ثم يجمع شتاتنا،

يمزج أفراحا بأحزان،


سعيد إبراهيم زعلوك

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إذا التقينا ،،سعد عبد الله تايه

🌠كلمات لا كالكلمات د. نوال حمود

(( وعود وأشتياق حنين وأغترآب))...ياسر الشابورى