قصة قصيرة: بيتُ جدي // بقلم: نور شاكر
قصة قصيرة: بيتُ جدي
بقلم: نور شاكر
كان بيتُ جدي في كركوك، ليس مجرد بناء من طين وحجر، بل كان يشبه قلبًا نابضًا بالحب في خاصرة المدينة، نافذةً مفتوحة على زمنٍ لا تتكرر فيه الأشياء
زمنٍ تتقاطع فيه أصوات العائلة الدافئة مع رائحة الخبز الطازج الخارجة من التنور، وتلتقي فيه خطواتُ الطفولة الهاربة على أرضٍ من دفء وطمأنينة أبدية
هناك، بين جدرانٍ قديمة تحمل آثار السنين ووشوشات الأجيال، بدأت أولى حكاياتي وحكايات كل فرد منا
كانت أيامنا تتقاطر إلى ذلك البيت كنسيمٍ لطيف في صيف قائظ
كنا ندخل واحدًا تلو الآخر، نحن الأحفاد، بخطواتٍ مليئة بالشغف الذي لا يهدأ، وبقلوبٍ تعرف أنّ خلف الباب الخشبي العتيق تنتظرنا الجدة الوقورة
كانت ترحب بنا بابتسامتها التي تُشبه صلاةً على هيئة وجه، ابتسامة تضيء عتمة القلب
كانت تمسح على رؤوسنا بحنان بالغ، وكأنها في كل لمسة تطمئن أن العالم لا يزال بخير، ما دمنا نركض إلى حضنها ونأكل من خبزها
كانت الجدة ليست فقط عمود البيت؛ بل كانت محراب الإيمان فيه قبل شروق الشمس، وفي هدوء الفجر الذي يلف كركوك بنوره الخافت، كنا نستيقظ على صوتها، صوتها الحنون الدافئ المتهدج كان يتسلل من غرفتها، يرتل آيات من القرآن الكريم
كان صوت التلاوة صافيًا وعميقًا، يحمل وقار السنين وإيمانًا راسخًا
كنا نسمع:
"… يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا. وسبحوه بكرة وأصيلًا…".
تلك التلاوة لم تكن مجرد صوت؛ كانت غسلاً يوميًا لروح البيت
كنا نفتح أعيننا على بركة آياتها، وكأنها ترش سحرًا من الطمأنينة على يومنا القادم
كان إيمانها الثابت مصدر قوتنا، وكانت كلماتها عن الصبر والتوكل تترسخ فينا دون أن ندري، لتكون زادنا في وجه الأيام الصعبة
كانت تقول لنا دائمًا: "يا أولادي، الأمان كله في ذمة الله".
كنا نجتمع حول سفرة الطعام، نحن وأخوالي وخالاتي وبنات خالاتي، كأن العالم كله يتّسع فوق تلك المائدة التي لا تعرف الفراغ
مذاق الطعام لم يكن طعامًا فحسب؛ كان امتدادًا لروح الجدة، ودفء يدها التي صنعت كل شيء بحب، وذكريات أمٍّ تزرع الحب في تفاصيل الحياة
نضحك بصخب، نتشابك في أحاديث لا تنتهي، نتقاطع في الآراء، نختلف أحيانًا على قطعة خبز أو مكان جلوس، لكننا كنا نعود دومًا إلى ذات النقطة التي لا نتجاوزها: أننا عائلة واحدة… وأن بيت جدي كان وطننا الحقيقي الذي لا يخذلنا.
بعد الغداء، كانت قيلولة الظهر طقسًا مقدّسًا لا يُنقض. كنا ننام متقاربين في صالة واسعة، كأن النوم يضمنا ليجمع شتات الأيام ويصالحنا على ما مر من اختلافات
وحين نستيقظ، تبدأ المفاجآت: مرةً نسمع ضحكات الخالات وهمساتهن في المطبخ وهن يصنعن كعكة منزلية تفوح منها رائحة الفانيلا والزبدة، ومرةً يجتمع الكبار ليكافئونا بالحلويات والمثلجات التي نراها كنزًا، فنقفز فرحًا كطيورٍ أُطلقت للتوء من قفصها.
أما اللعب، فكان عالمًا آخر من الحرية والمغامرة
كنا نركض في الحوش الواسع، نضحك حتى تتعب رئاتنا، نلعب لعبتنا الشهيرة "الذئب والأم"، فنصرخ بأعلى صوت، نهرب بتفنن، نختبئ بخوف لذيذ، ونعود في النهاية لنتقاسم الانتصار والخوف بخفة الأطفال وبراءتهم
هناك، في زاوية الحوش، كانت تقف شجرة التين الضخمة، عملاقة هادئة تلقي بظلها الوارف على أيامنا، كنا نتشاجر على حبة تين لم تنضج بعد، ونتعلم فن القسمة والعدل
كان ظلّ شجرة التين هو مكان اجتماعاتنا السرية، محكمة طفولتنا، ومخبأ أسرارنا الصغيرة
كنّا نتعلم تحت ظلها أن الحياة رغم مخاوفها، تُصبح أجمل وأكثر حلاوة عندما نلعبها سويًا، كنا نعتقد جازمين أن هذه الشجرة تحرسنا
وفي المساء، حين تقترب الشمس من الغروب، وتصبغ السماء بظلالها البرتقالية والوردية، نجتمع حول التلفاز لنشاهد برامجنا المفضلة التي لا نتفق عليها دائمًا
لكنّ الجلسة وحدها كانت برنامجًا آخر… برنامجًا مليئًا بالدفء لا يحتاج إلى شاشات، رائحة الخبز ترتفع مجددًا من المطبخ استعدادًا للعشاء، تختلط بنفَس الجدة الذي يحمل أحيانًا ذكرًا خفيفًا، وبأصوات الأحاديث التي تتناوب بين الحكمة والمزاح
عندها، قالت لنا الحياة بصوت خفيض: يمكن للمنزل أن يكون حضنًا، وأن يكون باب نجاة من قسوة الخارج، وأن يكون قصيدة جميلة تُروى جيلاً بعد جيل
لم نكن خالين من الهموم أبدًا… لكنّ العائلة كانت غِنانا الذي لا ينضب لم نملك الدنيا بكل زخرفها، لكنّنا امتلكنا ما هو أثمن بكثير
قلبًا يجمعنا على المحبة، وسماءً تحفظنا ببركة إيمان الجدة، ورائحة خبزٍ تُشبه الأمان المادي والمعنوي
ومضت السنوات… ببطء قاتل أحيانًا، وبسرعة مؤلمة أحيانًا أخرى كبرنا، وكبرت الهموم التي كانت تتخفى في الأركان
تغيرت الأشياء بسرعة صادمة رحل بعض الأحبة بصمت أبدي، وغادر آخرون الديار بحثًا عن غدٍ آمن، وتفرقنا على طرقٍ لم نخترها نحن، بل فرضتها ظروف الحياة القاهرة
أصبح بيت جدي أكثر صمتًا، كأن الزمن مر عليه بيدٍ ثقيلة محت ملامح البهجة، صارت كركوك موطن الذكرى المؤلمة، بعدما كانت موطن الحب والحكايات المبهجة
لكن، رغم المسافات الشاسعة التي تفصلنا، ورغم الفقد الذي ترك شقوقًا في قلوبنا، ورغم كل شيء مر بنا…
ما زالت قلوبنا، حين تتعب وتثقل عليها الحياة، تعود سرًا إلى هناك
إلى بيتٍ صار ذكرى أثيرة، وذكرى صارت وطنًا لا نُفارقه أبدًا
بيت جدي… لم يبقَ منه سوى الحكايات التي تروي مجد الأيام الغابرة،
لكنها الحكايات التي تُنقذنا من الوحدة،
الحكايات التي تستحق أن تُروى وتُروى… إلى الأبد.
تعليقات
إرسال تعليق