وطن القلب قصة قصيرة بقلم: نور شاكر

 وطن القلب

قصة قصيرة 

بقلم: نور شاكر 

 

كانت رنا فتاة تعرف نفسها جيدًا لم تكن مثالية، بل قضت سنوات تتعلم كيف تضع قلبها في مكان آمن... داخلها أولًا كانت تدرك أن الحب ليس غرقًا، بل شراعًا؛ وأن السعادة ليست مرهونة بوجود شخص آخر، بل هي أرض تنبت من الداخل

 حين أحبت، أحبت بوعي، دون أن تنسى نفسها أو تتنازل عن كيانها 

في إحدى الأمسيات الصيفية، جلست مع صديقتها منار في مقهى صغير يطل على النهر، حيث كانت منار تحدثها بمرارة عن وجع الانفصال الأخير

 كانت كلماتها تتدفق كشلال من الحزن واليأس 

 منار: "لا أعرف كيف أعيش بدونه، كأن حياتي كانت هو… كأنني كنت مجرد ظله، والآن أنا بلا ملامح" 

ابتسمت رنا بهدوء، نظرت في عيني صديقتها وقالت: 

"لأنكِ جعلتِ حياتكِ فيه، لا معه

الحب يا منار ليس أن نلغي أنفسنا في الآخر، بل أن نجد أنفسنا في حضوره

أنتِ لم تفقدي حبيبًا، بل فقدتِ نفسكِ في خضم العلاقة" 

 

تنهدت منار، تحدق في فنجان قهوتها، وكأنها تبحث عن إجابة في سطحه البني

 أكملت رنا وهي تتأمل انعكاس ضوء النهر على زجاج المقهى: 

"أنا أحببت قبلكِ، لكنني لم أضع كل ثقلي في قلب أحد

 كنت أفرح به، لكن لا أذوب فيه، الحب بالنسبة لي مثل النهر… جميل أن نجلس على ضفته، نتمتع بجماله ونسمع خريره، لكن لا أغرق فيه إذا غرقت، سأموت، وينتهي كل شيء" 

 

رفعت منار رأسها فجأة، وكأنها استفاقت من غيبوبة عاطفية، وسألت بلهفة: 

"وكيف فعلتِ هذا؟ هل هو شعور يأتي فجأة أم تعلمته؟" 

 

رنا: "تعلمته بالمرارة، يا صديقتي

تعلمتُ أن الحب ليس ساحة إنقاذ، ولا عقد امتلاك، هو مشاركة، لا استحواذ 

هو مساحة نلتقي فيها ثم نعود إلى عشنا الداخلي بسلام لو رحل، يبقى في ذاكرتي جماله، لكن حياتي تواصل المضي

لا أستطيع أن أسمح لغيابه أن يكون نهاية وجودي" 

 

توقفت للحظة، ثم أضافت بابتسامة دافئة: 

"أحبك حرًا… هذه جملتي المفضلة

هي بوصلتي في أي علاقة

من لا أستطيع أن أحبه حرًا، سأتركه يرحل بسلام، لأنه في النهاية، ما قيمة حب مقيد؟" 

 

مرت الأيام والأسابيع، ومنار بدأت تتغير ببطء، لكنها كانت لا تزال تتعثر في بقايا التعلق كانت تكتب لرنا أحيانًا رسائل طويلة عن شعورها بالوحدة، أو عن ذكريات تباغتها فجأة

فكانت رنا ترد بجملة قصيرة، تحمل في طياتها حكمة عميقة: 

 "عودي إلى نفسكِ، فهناك البداية والنهاية

 أنتِ وطنكِ الأول والأخير" 

 

كانت هذه الكلمات كالدواء الشافي، الذي لا يعطي حلولًا جاهزة، بل يشير إلى الطريق الصحيح تعلمت منار أن رنا لا تتدخل في معاناتها، بل تضيء لها الشمعة لترى طريقها بنفسها 

بعد سنة بالتمام والكمال، جلستا في نفس المقهى هذه المرة، كانت الأجواء مختلفة تمامًا كانت منار تضحك بصوت عالٍ، تتكلم بحماس عن مشروع جديد تعمل عليه، وعن سفرة تخطط لها بمفردها 

كانت ملامحها تشع بالثقة والاستقلال كانت رنا تستمع لها بفخر لا يضاهى، وكأنها ترى بذرة زرعتها وقد أينعت أخيرًا 

لم تعد منار تتحدث عن الماضي كثيرًا، وكأنها تركت حقيبة ثقيلة على الرصيف ومضت، تاركة وراءها كل ما كان يعيقها

في تلك اللحظة، أدركت منار أن وجود رنا في حياتها لم يكن صدفة، بل كان مرآة لما كانت تستطيع أن تكونه

 كان وجودها تذكيرًا دائمًا بأن الحب الحقيقي لا يحدّ، بل يحرر 

وفهمت أن الحب الناضج ليس أن تجد شخصًا لا يرحل، بل أن تصبح الشخص الذي يستطيع أن يحب ويبقى حرًا؛ حرا في مشاعره، حرًا في كيانه، وحرًا في أن يعيش حياته بكل تفاصيلها، سواء كان وحيدًا أو مع شخص آخر.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إذا التقينا ،،سعد عبد الله تايه

(( وعود وأشتياق حنين وأغترآب))...ياسر الشابورى

🌠كلمات لا كالكلمات د. نوال حمود