الجبّانة! ...سيف الدين علوي
الجبّانة! لعن اللّه بقعة الموت تلك، من الأرض! كان يعنّ لوالدِ عبد الجبّار أن يرتاد الجبّانة في مساءات عديدة من سائر الأسابيع.. كان يروق له أن يقتعد بقعة ما بين مقابر الثّاوين ليسكر، و يغنّي أحيانا، وينشج أخرى.. كان والده يُحبّذ الخمر و الغناء العتيق الحزين الذي يسبغ عليه روحا فكاهيّا فيفقده بهجته الشّجيّة.. و كان كذلك يعشق النّشيج في المقبرة.. الحياة إذنْ، هي تلك الهِوايات، هي تلك الهُويّات ذات المعاني الشّاحبة (خمر . غناء. و نشيج) يؤدّيها أب مستهترٌ ، في مقبرة معزولة عن قريتها بمسافة ليست بأبعد من مسافة بُعدِ أبيه عنه، عن أمّه و إخوته ..
حين كان والده يرتاد المقبرة لم يكن يلوي على شيء يتركه وراءه في المنزل.. كان والده يفضّل العزلة في المقبرة.. و كانت زوجته إذا حظيتْ بالعثور عليه، صريع غُبْنِه ذات غياب طويل و بحثٍ أشقّ، تقول له: لماذا تستبق ميعاد حتفك يا رجل؟ لماذا تندسّ حيّا بين الأموات، و تدفن تاريخ أسرتك إلى جوار الدّود؟ لسوف يصعد الدّود إليك إن تأخرتْ لبعض الوقتِ ولائمُه.. و كان يقول لها: اغربي عن وجودي ــــــ ويقصد عن عدمي ـــــ .. لم أعد أحتمل الفقر الأصمّ.. و ليس لي قدرة على تغيير ما بي و لا على إنقاذ تاريخكم الطّموح.. أنا، بلا طُموح هكذا، مخلوق سعيد.. هكذا أفضّل أن أكون و أن أظلّ .. لا أرغب في أن أحلم.. الأحلام هلوسة.، خمرة لا تُثمل.. هنا فقط، دون أحلام، أنا أسكر بحريّة، أغنّي بسلام .. هنا أنشجُ أنا بلا حياء، حتّى أموت.. أرأيتِ هذا العالم الفسيح الصّامت؟ ــــ ويكون إذّاك قد سرّح بصرا ميّتا في فراغ آهل بالصمت و الحريّة ــــ إنّه العالم الأفضل، لا صخب. لا ضوء . لا مرايا نرى فيها الأشياء والملامح و الوجوه.. تضحك والدة عبد الجبّار سخرية و تُعقّب: لا مرايا!؟ لعلّك كسرتَ كلّ مراياك، حتّى هذه المرآة الأصفى، و تشيرُ إلى المقبرة الفسيحة التي تلفّها ظلمة ما قبل السُجوّ العنيف.. لعلّك فقأتَ عينيْك كيلا تقتنع بأنّ ثمّة مرايا حواليْك.. ينهض حينئذ والدُه من تلاشيه دون أن يخرجَ عن أحيزة التّلاشي و فضاءات السّقوط.. يهمّ بصفعها، لكنّه يتأرجح ، لا يقوى، و حين لا يقوى يقول: اغربي عن مقبرتي.. هذا المكان ملكي و ممْلكتي . لا أسمح لكم أن تقتحموا مناخ عزلتي.. ثمّ ينظر إليّ ــــــ أنا عبد الجبّار الطريّ، الطفل الذي لمّا يبلغْ سنّ الأشدّ ـــ ويقول: عُد بأمّك إلى المنزل.. لعلّك تحظى دوني بنصيب من الرّجولة أكبر.. لا تبحثا عنّي ثانية.. إنّكمْ، إذا متّ، لن تتكبّدوا عناءَ حَمْلي و لا مراسم مأتمي، فقط احثوا فوقي هذه القوارير.. لا تخفْ عبد الجبّار، منها ما يكفي لإلحادي.. عدْ.. على أعناقكم، عدْ بأمّك إلى المنزل قبل أن يحلّ بالمكان نـُدمان المكان.. و احذر ، إذا صادفتَهم عند مدخل المقبرة أو في المسالك الوعرة أن تكلّمهم، أو تسلّم عليهم.. إنّهم لم يتعلّموا الرحمة قطّ و لن يتعلّموها.. ثمّ ينظر إلى زوجته موبّخا بتلعثم: لم جازفتِ بالمجيء إلى هذا المكان، يا امرأة؟ هيّا، انصرفي الآن.. حينها تنظر إليه من شقوق حزنها المشفِق و تردّ: لأنقذ ما تبقّى من الحياة، يا رجلَ المقبرة.. ثمّ تمسك ابنها و تعود أدراجها..
في مسافة عبارةٍ من التّأنيب عابرة على لسان ميساء، يتذكّرُ عبد الجبّار أيّامَ صباه القديمة.. ما يزيد عن أربعين عاما مضت... لكنها لا تنتهي.
________
سيف .د.ع
تعليقات
إرسال تعليق