دهاء قاض // بقلم: ماهر اللطيف
دهاء قاض
بقلم: ماهر اللطيف
يُحكى أن قاضيًا ذاع صيته في أرجاء الأمصار، واشتهر بعدله وإنصافه، وذاع خبره لذكائه ودهائه، وفطنته ومهارته، حتى صار حديث الناس في صدر الإسلام. ضاق بقية القضاة ذرعًا به، وامتعضوا من سطوع نجمه، ورفعوا أمره إلى أولياء أمورهم، دون أن يجدوا وسيلة تُعيد إليهم هيبتهم ومكانتهم بين المتقاضين في كل مكان.
كان الناس يأتونه من كل حدب وصوب، يحدوهم الأمل في استرجاع حقوقهم، وتكفيف دموعهم، والقصاص ممن اعتدى عليهم. في مجلسه يُفرق بين الحق والباطل، ويشعر المظلومون فيه بالإنصاف، وتُرد الحقوق إلى أصحابها، وكأنما هو شعاع من عدالة السماء.
ومن بين هؤلاء، الشيخ "عيسى"، جاء يشكو جاره "عبد السلام"، بدعوى أنه أقرضه مبلغًا كبيرًا من المال حين ضاقت به الدنيا وشحّ رزقه، على أن يرده إليه متى ما تيسرت أحواله. لكن هذه المعاملة جرت بلا شهود ولا كتاب يوثقها.
ومرت السنوات، فأغدق الله على عبد السلام من رزقه، بينما تقدم عيسى في السن واشتدت أمراضه، وتكاثرت مصاريفه، فطالب جاره بدينه، عساه يعينه على مصاعب الحياة. لكن عبد السلام أنكر الأمر، بل هدده بمقاضاته إن لم يكفّ عن “الافتراء عليه”، كما زعم، واتهمه بالحسد والطمع.
لم يجد عيسى بدًّا من السفر إلى ذلك القاضي المشهور، طمعًا في عدله وبعده عن التلاعب والعطايا التي شوّهت سمعة بعض القضاة.
فما إن علم القاضي بالقصة، حتى أرسل في طلب عبد السلام على وجه السرعة، ومنحه أسبوعًا للحضور نظرًا لبعد المسافة ووعثاء السفر.
حين بلغ عبد السلام مجلس القاضي، كان المشهد مهيبًا؛ الناس بين داخل وخارج، منهم من تظهر عليه البهجة، ومنهم من يغادر باكيًا أو مقيدًا، والكل يتحدث عن شدّة القاضي مع الظالمين، ورأفته بالمظلومين.
استُدعي عبد السلام للمثول، وأمام القاضي أنكر كل ما نُسب إليه، واستغرب من "الشكوى الكيدية"، وهدّد بمقاضاة عيسى. بدا القاضي حائرًا ـ أو تظاهر بذلك ـ بينما خيم اليأس على عيسى، وارتاح عبد السلام بعد أن سُمِح له بالانصراف.
غير أن أمرًا غريبًا لفت انتباه القاضي: كان عبد السلام يرتدي "برنسا" صوفيًّا ثقيلًا، رغم حر الصيف، ما أثار الشك.
أمر الحراس بإعادته قبل أن يغادر، وطلب منه مجددًا الإفصاح عن الحقيقة، فأنكر، ثم طلب منه القسم، فوافق على الفور. اقترب منه القاضي، وخاطبه بهدوء طالبًا منه قول الحق "ليجد حلاً وسطًا يُرضي الجميع"، فأنكر مرة أخرى.
حينها أمر القاضي بحبسه لتعمده الكذب، فارتبك عبد السلام وتصبب عرقًا، ثم صرخ:
– حسنًا، سأعترف! نعم، لقد اقترضت منه المال.
ابتسم القاضي وقد تحقق مراده، ثم سأله:
– ولماذا لم ترده له
كما وعدت؟
– بل رددته له بعد مدة قصيرة.
– هل تُقسم على ذلك؟
– هات القرآن!
وما إن قال ذلك حتى خلع البرنس وأعطاه لعيسى قائلاً: “أمسكه، حتى أُؤدي القسم”.
تفاجأ الحاضرون، وقام عبد السلام بأداء القسم مؤكدًا أنه أعاد المال، فطلب القاضي رأي عيسى، فصمت لحظة ثم قال مترددًا:
– ربما... ربما أعاد إلي المال، وطال الأمد فنسيت...
لكن القاضي لم يقتنع، فابتسم وقال لعيسى:
– أعلم أنك غير مقتنع، وسأثبت لك خبث جارك ودهائه.
ثم التفت إلى عبد السلام:
– لقد أهدرْتَ الفرص، واخترت المكر بدل الصدق، فلك ما اخترت.
سأل القاضي عيسى:
– هل اعتاد جارك ارتداء هذا البرنس في الصيف؟
– لا، بل لا يلبسه حتى شتاءً!
أخذ القاضي البرنس، تفقده جيدًا، ثم استدعى سكينًا لتمزيق جزء من أسفله، فإذا بكيس مالٍ مخبّئ بإتقان. عُدّت النقود أمام الجميع، فإذا بها تساوي تمامًا المبلغ المطالب به.
فقال القاضي:
– حين أعطى عبد السلام البرنس لعيسى وقال إنه "أعطاه ماله"، لم يكن كاذبًا في ظاهر القول، لكنه كان ماكرًا. استغل حيلة لغوية للتحايل على الحقيقة، لكنه نسي أن دهاءه لا يصمد أمام فطنة العدل.
ثم أعاد المال لعيسى، ولامه على عدم توثيق القرض، مؤكدًا أن القرآن نفسه يحث على الكتابة والتوثيق. أما عبد السلام، فقد أمر القاضي بحبسه جزاء خديعته وتحايله، وأصدر حكمه قائلا:
- ما هكذا تسترد الحقوق.
تعليقات
إرسال تعليق