الهجنة في الأدب العربي المعاصر: بين التجديد والتفكك بقلم: ماهر اللطيف

 الهجنة في الأدب العربي المعاصر: بين التجديد والتفكك


بقلم: ماهر اللطيف


شهد الأدب العربي في العقود الأخيرة تحوّلات جوهرية على مستوى البنية والأسلوب والمحتوى، نتيجة التفاعلات المتعددة بين الثقافات والتجارب الإنسانية، وتغيّر بنية المجتمعات العربية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. ومن أبرز مظاهر هذا التحوّل بروز ما يُعرف بـ"الهجنة" الأدبية، وهي ظاهرة باتت تميّز عدداً كبيراً من الكتابات المعاصرة، خاصة في الرواية والنصوص المفتوحة. فما المقصود بالهجنة لغويًا واصطلاحًا؟ وما تجلياتها الفنية والثقافية؟ وما الذي تضيفه إلى النص العربي، وما الذي تُخفيه أو تُضعفه أحيانًا؟ هذا المقال محاولة لتفكيك هذه الظاهرة واستجلاء أبعادها المتعددة.


فما هو تعريف الهجنة لغويا،اصطلاحا، و أدبيا ؟ وما مفهومها؟


 لغويًا، فكلمة "الهجنة" مشتقة  من الفعل "هجّن"، وتعني الخلط والمزج بين عناصر مختلفة في أصلها أو خصائصها. ويُستخدم المصطلح في سياقات متعددة، منها البيولوجيا والاجتماع واللغة.


اصطلاحًا،ففي السياق الثقافي، تشير الهجنة إلى تداخل عناصر من مرجعيات ثقافية مختلفة داخل النص أو الظاهرة الإبداعية الواحدة. وهي تتعلّق بإزاحة الحدود الفاصلة بين الأشكال والتقاليد الأدبية، مما ينتج عنه نص جديد مركّب، لا ينتمي بشكل خالص لأيّ من الأطر المعهودة.


وأدبيًا، تعني الهجنة الأدبية الجمع الواعي أو العفوي بين أنماط وأساليب ومرجعيات متعددة في بناء النص، بحيث يتحول النص إلى فسيفساء تتداخل فيها الأصوات، وتتعدّد فيها المرجعيات الأسلوبية والفنية. ويظهر ذلك بشكل خاص في الكتابات التي تمزج بين السرد الشعري، والتحليل النفسي، والتناص الديني، والأساطير، واللغة الصحفية أو الخطابية وغيرها


ما هي مظاهر الهجنة في الأدب العربي عندئذ ؟


تتجلّى الهجنة في الكتابة العربية المعاصرة في عدّة مستويات، من أبرزها:


1. هجنة الأشكال الأدبية:


حيث يندمج الشعر بالنثر، أو تتداخل الرواية مع المسرح، أو يُكتب المقال بأسلوب قصصي، فيتحوّل النص إلى بنية مفتوحة تتجاوز الشكل الواحد. ونجد ذلك مثلاً في بعض أعمال أمين معلوف، أو في قصائد النثر التي تقترب من اليوميات والاعترافات الذاتية.


2. هجنة الثقافات:


من خلال توظيف رموز ومفردات من ثقافات متعددة، سواء غربية أو شرقية أو إفريقية أو أمازيغية، ما يخلق تداخلاً دلاليًا وثقافيًا يثري النص، كما في روايات الطيب صالح أو إلياس خوري أو واسيني الأعرج.


3. هجنة الأساليب الفنية:


كاعتماد تقنيات السرد الحديثة مثل: الاسترجاع (الفلاش باك)، والتشظي، واللازمنية، والتناص، مما يخلق نصًا مركّبًا من الناحية الزمنية واللغوية، ويدعو القارئ إلى التفاعل التأويلي لا الاستهلاكي فقط.


 الهجنة بين الإبداع والتفكك؟


 إيجابيات الهجنة: 


التجديد الأسلوبي: تسمح الهجنة للكاتب بتجاوز القوالب الجاهزة، وتجديد أدوات التعبير.


الغنى الدلالي: يعكس النص الهجين تعدد زوايا النظر إلى العالم، وتنوّع المرجعيات الفكرية.


الانفتاح الثقافي: تنفتح الهجنة على الآخر المختلف، وتُخرج الأدب من عزلته المحلية.


سلبيات الهجنة:


فقدان الهوية الجمالية: قد يؤدّي الإفراط في الهجنة إلى تمييع شخصية النص، فيبدو متذبذبًا أو فاقدًا لهويته.


تشويش التلقي: يمكن أن تربك القارئ غير المتخصص، أو تُحيله إلى نص متشظٍ يصعب تتبعه أو تذوقه.


تجريد المعنى: أحيانًا، تغرق النصوص الهجينة في لعبة الشكل على حساب الجوهر، فيضعف الإحساس بالرسالة أو الهدف.


 الهجنة بين التراث والحداثة؟


من المهم أن نلاحظ أن الهجنة في الأدب العربي ليست ظاهرة معاصرة فقط، بل يمكن تتبع جذورها في نصوص قديمة مثل المقامات، التي جمعت بين السرد والخطابة والشعر والوعظ، أو في رسائل الجاحظ، التي مزجت بين الجد والهزل، والعلم والأدب. إلا أن الهجنة اليوم تأخذ طابعًا أكثر تركيبًا وتداخلاً بسبب التفاعل مع الحداثة الغربية، والثورة الرقمية، وتفكيك الأشكال السردية التقليدية.


فما هو رأينا النهائي من هذه المسألة؟ 


إن الهجنة ليست مجرد موضة أدبية عابرة، بل هي انعكاس لتحوّل عميق في النظرة إلى الأدب ووظيفته، وفي طريقة تمثل العالم وكتابته. فالعالم نفسه لم يعد نقياً أو أحاديًا، بل تعدديًا، متداخل المرجعيات، وهو ما تعكسه النصوص الهجينة.


وبين من يرى فيها خطرًا على الهوية الأدبية، ومن يراها فرصة للابتكار والانفتاح، يبقى الحكم على الهجنة مرتبطًا بقدرة الكاتب على توظيفها دون أن يفقد النص تماسكه، أو يُغرقه في فوضى تعبيرية جوفاء.


عموما، فإن تعزيز الوعي بالهجنة، وتحليل أنماطها وتجلياتها، يُعد ضرورة للناقد والقارئ معًا، كي لا يُختزل النص الأدبي المعاصر في سطحه أو غرابته، بل يُقرأ في ضوء تركيبته المعقدة التي تجمع بين المحلي والعالمي، التقليدي والمحدث، الذاتي والكوني.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مناجاة روح...زهور الخطيب

العجوز والماء… وجنازة الوطن // بقلم: جبران العشملي

ابوي علمني ...هبة أبو السعود