يوم مشؤوم بقلم: ماهر اللطيف

 يوم مشؤوم

بقلم: ماهر اللطيف


كنت وزوجتي نتجول بين الباعة والعارضين في سوق المدينة الأسبوعي المشهور، نقلب هذه البضاعة ونشتري تلك ونقايض ثمن الأخرى ،يعجبنا بهذا المنتج ولا يعجبنا غيره، نتلمس قماش هذا اللباس ونتفحص الاخر....

وكان السوق ممتلئا للغاية بالرواد من كل الأجناس والالوان والاعمار أتوا من كل فج لقضاء شؤونهم والتزود مما يرغبون فيه باثمان معقولة بعيدة كل البعد عن اثمان المغازات والمساحات الكبرى المرتفعة والباهضة....

فكنا  في مدارج ملعب كرة قدم في الوطن العربي، كل يغني على ليلاه، و يصيح ويهتف عكس تيار الأغلبية، و يستقطب الانظار والناس بطريقة تختلف عن الغير بحيث يمكنه (التاجر العارض لبضاعته) أن يحقق فحوى القاعدة الاقتصادية المعروفة "اذا اردت ان تنجح في تسويق بضاعتك، فحاول ان تجعل حريفا ايجابيا  من جملة عشرة حرفاء على الأقل يقتنعع باقتناء مبيعاتك ويقبل عليها دون قيد أو شرط"...

وبطبيعة الحال، فمن الوارد جدا تواجد الاشتباكات والخصومات والعراك والسب والشتم وغيرها جراء هذا الاحتكاك المتواصل والازدحام واللهفة والرغبة ،وتعمد البعض إلى السرقة وافتكاك متاع الغير وحتى التحرش ببقية الناس مهما كان جنسهم او سنهم خاصة النساء والصغار منهن ....

ورغم انتشار اعوان الأمن والحراسة هنا وهناك، فإن هذه الممارسات القذرة لم تنته او تندثر، بل تنامت وتكاثرت ولم يعد الجناة يهابون شيئا او احدا في مجتمع بات أقرب  إلى غابة منه إلى  مجتمع منظم، حيث بات قانون الغاب هو الطاغي والمسيطر في كل مكان وزمان.....

ومن بين هذه العادات الدخيلة على مجتمعنا العربي الإسلامي السمح في الأصل ( أو لنقل أنها تكاثرت ونمت فيه بطريقة لافتة للنظر وامست مقلقة ومزعجة  وجب التصدي إليها وإيجاد قانون زاجر وقاس لكل ممتهن لهذه المهنة المقيتة) ظاهرة "الخطف" أو "افتكاك" حقائب الناس وهواتفهم وممتلكاتهم والهرب بسرعة للاحتماء ببقية المجموعة الاجرامية والاعتداء على كل من يقترب منهم او يريد استرداد ما سلب منه عنوة بالضرب والسب والشتم او حتى تشويه الأجساد وتقطيعها وصولا إلى  القتل إن استوجب الأمر باستعمال كافة انواع السلاح المتاحة والممكن الحصول عليها في كل مجتمع.

فقد عشت يومها  حادثة مماثلة صدمتني واربكتني وجعلتني أعود الطبيب في حينها و من الغد، ومازلت إلى اليوم تحت وطأة الصدمة والهلع والخوف، اتناول الأدوية والمهدئات وأخشى التواجد في التجمعات والمساحات الكبرى، اتحاشى الالتقاء بكل انسان غريب عني لا اعرفه...

فبينما كانت أم (متقدمة في السن مثلي او تصغرني ببعض السنوات على ما اعتقد، متوسطة القامة ، بيضاء البشرة وسوداء الشعر، لباسها يبرز أنها من طبقة متوسطة أو دونها لقدمه وبداية اهترائه وبلحه وتغير لونه الأصلي) تقلب بعض الملابس النسائية بمعية ابنتها البكر ذات العشرين سنة ( طويلة القامة ، بيضاء البشرة وسوداء الشعر والعينين، ممشوقة القد وجميلة الوجه والقوام ، قالت الأم انها تستعد للزواج هذه الصائفة وأتتا لاقتناء ما يمكن اقتناؤه لجهاز العروس ككل سوق ) واختها الصغرى المصاحبة لهما ( يبدو أنها لم تغلق عقدها الأول )، وكن يضحكن ويخترن المنتجات وفق اذواقهن وامكانياتهن وميولاتهن بكل دقة وعناية، يتجولن بين الباعة ويتخيرن ما يروق لهن من بضاعة، يشترين ويرجعن ويغيرن البضائع ، إذ يتجرأ شاب (لا أظنه يتجاوز خمسة عشر سنة) على الاقتراب من "العروس" ويجذب حقيبتها اليدوية التي كانت تمسكها بيدها اليمنى مسكا قويا لمعرفتها بما يحصل هنا عادة جذبا عنيفا للغاية حتى ارتجت الفتاة وتقدمت خطوات إلى الأمام وهي تستميت في الدفاع عن ممتلكاتها وتصيح طالبة النجدة من امها واختها وكل الحضور وعلامات الخوف والهلع والريبة تنتابها وتبرز على محياها وكل تقاسيم وجهها، لكن المعتدي يصر على فعلته ويضاعف من قوة اعتدائه وجذب الحقيبة وهو يركل صاحبتها على مستوى البطن ركلة وحشية جعلتها تسقط أرضا من شدة الألم وهي تمسك بطنها والدموع تكاد تغرقها من كثرة تدفقها وانهمارها وامهما واختها تصيحان وتستغيثان وتشيران إلى المعتدي الذي اطلق رجليه للريح وفر وهو يدفع الناس ويضربهم  ويركلهم بكل ما أوتي من قوة حتى لا يمسك به أحد.

فتألمت من رؤية هذا المشهد الما شديدا وارسلت زوجتي لمواساة الضحايا في انتظار عودتي رغم رفضها الشديد لقراري ومحاولتها صدي عن ذلك ، واقتفيت أثر هذا المجرم بكل حزم وعزم وتحد وإصرار على النيل من هذا الوحش الآدمي (وقد شعرت حينها اني شاب في مقتبل العمر فجأة سبحان الله، إذ ذهب كل وهن وتعب واختفت الآلام والاوجاع وكأن الله بعث في هذه الذات روحا شبابية جديدة مليئة بالطاقة والحيوية والنشاط)، فجريت وراءه وانا اتلو ما تيسر من القرآن تارة وادعو الله ليعينني ويلهمني القوة والطاقة لاسترد حاجة تلك الفتاة طورا، وقد تبعني جمع من الناس صغارا وكبارا من أجل نفس الغاية والهدف.

وها إني التحق به ولم يلتحق بعد ببقية أفراد مجموعته والحمد لله، أمسكه من معطفه من أعلى ظهره بقوة خارقة بيدي اليمنى وانا اجلبه نحوي مما جعله يتوقف بعد أن عجز عن التقدم وقد التحق بنا بقية الناس وعون أمن كان بالقرب منا، أحاول تفتيشه بيدي اليسرى وقد اخفي الحقيبة ولم اتوصل بعد إلى مكانها، فيلتفت إلي فجأة ويضربني بمقدمة رأسه على جبيني وانفي بعنف حتى نزفت وتطايرت  دمائي كمياه الشلال  وسقطت ارضا وانا اصيح واستغيث وهو يحاول الهرب لولا أن مسكه الحضور وعون الأمن في الابان وهم يطمئنون على حالي ويهاتفون الإسعاف  ليلتحق بي وقد وضع احدهم كف يده بقوة على جبيني محاولة منه منع الدم من السيلان والانسياب في انتظار الاسعاف.

فيما سعى البقية إلى تفتيش الجاني واستخراج الحقيبة من داخل سرواله أين وجدوا أيضا سكينا كبير الحجم وقارورة غاز مشل للحركة وكثير من المال والذهب والهواتف التي "جناها من عمله إلى حد الآن".

بينما ركله احدهم ولكمه آخر، فيما سبه آخرون وشتمه البقية رغم محاولة منع عون الأمن لهم بشدة باعتبار أن هذا الصنيع "مخالف للقانون" و "مس من حريته الشخصية "، والشاب يصيح ويبكي:


- الرحمة أرجوكم، كفوا عن ايذائي فأنا ابنكم

- (أحد الحاضرين مقاطعا وغاضبا) صه أيها المجرم لا تتكلم

_ (الشاب باكيا) الرحمة، الرحمة فأنا مسلم مثلكم

- (شخص آخر) لا رحمة لمن يعتدي على الناس ويفتك عرقهم وصحتهم وعافيتهم

- (ثالث بصوت مرتفع للغاية) انت مسلم مثلنا؟ (مستهزئا) هل تعلم ما معنى مسلم أيها النذل؟

- (الشاب متوسلا بعد أن صفعه المتكلم) أرجوك لا تؤذيني، ها قد استرجعتم الحقيبة وسلبتموني حاجاتي، اتركوني وشأني وانا متنازل عنها وعن ملكيتها

- (الشخص الثالث معقبا) " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه "كما قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه

- (عون الأمن مزمجرا بشدة) ابتعدوا أيها السادة ساتولي امر هذا الشاب (ثم يمسكه من ملابسه على مستوى الرقبة بشدة حتى لا يهرب إلى أن حد من امكانية تنفسه بأريحية  وهو يشير لي بيده ولا ازال طريح الأرض اتصارع مع الآلام والاوجاع والدماء المنهمرة من كل حدب) وهذا الشيخ؟

- (الشاب مستغربا ورافعا حاجبيه إلى أعلى) ما به؟

-(رجل من الحاضرين بصوت عال) لعنة الله عليك أيها الوقح، رجل في سن والدك تعتدي عليه بهذه الوحشية ثم تتبرؤ من فعلتك تجاهه؟

- (الشاب بطريقة استفزازية) لم اتبرأ ،لكني دافعت عن نفسي حين حاول الإعتداء علي (يصفعه بقوة حينها عون الأمن) ، فهو من بادر بالسوء

- (الرجل معقبا) خسئت أيها الوقح، وتكذب أيضا وتريد أن تلعب دور الضحية؟

- (رجل آخر) ثكلتك أمك أيها الحقير


ومازال الحوار يحتد ويشتد بين الجميع حتى حضر رفاق الجاني مدججين بالاسلحة والسلاسل وهم يعربدون ويتوعدون ويعتدون على كل من يعترض سبيلهم، وكادوا ينالون منا ويفتكون زميلهم في الاجرام من الشرطي لولا وصول التعزيزات الأمنية والقبض عليهم جميعا قبل وصول الإسعاف ونقلي إلى المستشفى أين تمت مداواتي والعناية بي على أكمل وجه والحمد لله.

فيما وقع مصادرة كل ما وجد عند المعتدي من مال وعتاد واسلحة واسترجع المعتدى عليهم الذين حرروا أبحاثا في الغرض حاجاتهم كما استرجعت العروس حقيبتها في الحين وفرحت لذلك أيما فرح ناهيك وأن الحقيبة تحتوي على مبلغ مالي هام للغاية جلبته لتشتري به أشاء ثمينة ذات قيمة تحتاجها لجهازها، وكنت بعدها من المستدعين الأوائل لحفل زفافها .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مناجاة روح...زهور الخطيب

علامة إستفهام؟فتحي موافي الجويلي

((خَاطِرة : رَاجع حِسَابك )) ✍أبو بكر الصيعري