حكاية أبو حمودة العجوز..د. عز الدين أبو صفية
قصة قصيرة...
حكاية أبو حمودة العجوز :::
كانت بلاده جزءاً من أراضي الإمبراطورية العثمانية عندما احتل العثمانيين معظم البلاد العربية وبالتالي يخضع جميع سكانها للقوانين والنُظم العثمانية وبالتالي يتم تجنيد الشباب والرجال للمشاركة في حروب الإمبراطورية العثمانية في القوقاز وأوروبا ومختلف المناطق ؛ كان أبو حمودة من سكان القرية التي داهمتها فرقة عسكرية ثمانية مخصصة لجلب الشباب والرجال لزجهم مع الجيوش للمشاركة في الحروب التي ليس لهم فيها ناقة ولا بعير وعليه فقد خدم مع (الجانديرمة ) وهو الاسم العثماني للجيش عدة عقود بعيداً عن وطنه وقريته فكان جندياً تشرب العادات والتقاليد العثمانية ثم عاد بعدها وقد نحل خصره وفقد كثيراً من وزنه وشاب شعره وابيض لحيته وبدت عليه علامات الشيخوخة واستقر به الأمر في احد الأحياء الفقيرة والمهمشة في مخيماً من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بعد أن هُجرت عائلته من قريتهم بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية وبعد عام النكبة ١٩٤٨.
كانت زوجته قد توفاها الله وكان له طفلاً أصبح يافعاً وبعد عودته تزوج من أمرأه أخرى وأنجب منها ولداً وثلاث بنات ؛ كان رجلا هادئا متديناً لا يجيد القراءة ولا الكتابة ولكنه تمكن من حفظ بعض السور البسيطة من القرآن الكريم وكان مواظباً على العبادات وأداء الصلوات جميعاً في المسجد.
كان أبو حمودة لا زال يرتدي الملابس القديمة من سراويل وجلابيب وغطاء الرأس ذات الصبغة العثمانية والتي يغلب عليها اللون الأخضر والأسود واللون الرمادي، وكان حذاؤه قديم قدم الإمبراطورية العثمانية وهو عبارة عن حذاء جندي ( بُسطار) قام بإجراء بعض التعديلات عليه بواسطة أحد مُصلحي الأحذية ليتناسب مع سيره البطيء يستخدمه بدون جوارب عند ذهابه إلى المسجد الذي يبعد عن بيته ما يزيد عن المئتي قليلاً يسيرها على قدميه ماراً بمجموعة من الأولاد الذين يقطنون في نفس الشارع الذي يعيش فيه وكانوا يمارسون ألعابهم المختلفة وما أن يمر بهم يتسابقون بإظهار حبهم واحترامهم له فيُقبلون يده اليُمنى عندما يقومون بالتسليم عليه ويطلبون منه بالدعاء لهم فيمازحهم بمداعبتهم بعصاه ( عكازه ) القديم الذي يتكئ عليه وهو يدعو الله بالرضى عنهم فيزيد من احترامهم وحبهم له ، وتستمر هذه العلاقة بينهم كلما مر أبو حمودة من حولهم أثناء ذهابه للمسجد لأداء الصلاة والعودة وهم يمارسون ألعابهم في الشارع الذي يقطنوه؛ كان احترامهم له يملأ قلبه ويضفي السرور عليه رغم ثقل سمعه فلا يمنعه ذلك من ملاحظة صدق احترامهم ومحبتهم له.
وفي يوم من الأيام أراد أبو حمودة اختبار صدق محبتهم واحترامهم له وهل الدافع لذلك حبهم وتقدير هم لهذا العجوز أم أنه هو يحترم نفسه لاحترامه لهم ولألعابهم ولا يتذمر من تواجدهم ولألعابهم في الشارع ؛ فعمد إلى مشاكستهم التشويش على ألعابهم فقام ببعثرتها بعكازه وهي مرصوصة على الأرض، فتوتروا جميعاً ولكن احترامهم له لكبر عمره وضعف بصره جعلهم يكظمون غيظهم خاصة بعد أن أشار لهم بيده وكأنه يتأسف لهم عما صدر عنه من فعل غير مقصود .
تكرر هذا السلوك من أبو حمودة عدة مرات في أيام متتالية الأمر الذي أدى الأولاد ظن السوء العجوز واقتنع أ بأنه يتعمد التشويش عليهم إفساد ألعابهم وازعاجهم ، انهالوا عليه بالشتائم وتوبيخ شيبته بألفاظ سيئة وبعضهم قطفه بالحجارة.
أدرك أبو حمودة بأن ما كان يلقاه من احترام الأولاد له ناتج عن الاحترام المتبادل بينهم وأن هذا الاحترام هو أساس العلاقات الإنسانية ، فدعى جميع الأولاد للجلوس بجانبه على المسطبة الموجودة في الشارع والتي يستخدمها بعض المارة للجلوس عليها للراحة من عناء السير على الأقدام ، وبعد أن جلسوا من حوله أخرج من جيب معطفه الأسود البالي الذي يملأه عبق تاريخه الطويل الذي قضاه كجندي مع الجيش العثماني ؛ أخرج كيساً ورقياً كان قد وضع به قطعاً من الشوكولاتة اشتراها من بقالة يمتلكها أحد أصدقائه ممن كانوا رفاقه في العسكرية وأخذ يوزع منها للأولاد وهو يتبسم لهم ويخبرهم عن تعمده أفعاله تلك التي لم تكن بقصد مضايقتهم ولكن يعلمهم بأن الاحترام هو سلوك إنساني يظل يمارس متبادل بين الناس .
تضاحك الأولاد وتسابقوا لتقبيل يد أبو حمودة معتذرين له عما صدر منهم بحقه وعادت المحبة والألفة بينهم جميعاً.
وعن خمس وتسعون عاماً مرت من عمر أبو حمودة توفاه الله فحزن الأولاد كثيراً وقام أحدهم برسم صورته بالفحم على جدار أحد المنازل مقابل المسطبة لتظل ذكرى أبو حمودة خالدة في الأذهان .
د. عز الدين حسين أبو صفية
تعليقات
إرسال تعليق