ابن منشر الغسيل .. قصة / رضا الحسيني
.. حكايات رضا
.. .... ابن منشر الغسيل .. قصة / رضا الحسيني
عندما سكنت في شقتي هذه كنت قد مر على زواجي سبعة أعوام ، خلالها كان الأطباء قد أكدوا لنا عدم قدرة زوجي على الإنجاب ، وبمرور الوقت كانت الحياة تحاول تعليمي الرضا بقدرنا هذا ، في هذه الأثناء بدأت العمارة المجاورة لنا ترتفع ، وسكنت بالشقة المجاورة لنا عروسة جديدة ، وبعدعام من وجودهم بجوارنا بدأت أسمع صوت طفل يبكي أحيانا ويضحك أحيانا ، كانت فرحتي كبيرة لأني أحب كثيرا سماع صوت الأطفال في سنواتهم الأولى هذه ، فشعرت أن هذا الطفل هدية السماء لي كما هو هدية لأمه
وصار بداخلي شغف غريب لأن أعرف هل هو ولد أم بنت ، حتى سمعت أمه تداعبه ذات يوم وهي تقف به في بلكونتها :
_ مالك يا ميدو ياحبيبي ؟ يا روح ماما أنت ، فين ضحكتك الحلوة ، اضحك يلا عشان هغيرلك لبسك كله وأرضعك وتنام شوية
صار ميدو من يومها حبيبي أنا أيضا ، وبقيت أنتظر بشوق سماع صوته ولذلك كنت إما جالسة في بلكونتي او بالقرب منها ، وتصادف أخيرا أن رأيته وأمه تُجلسه على سور بلكونتهم الحديد ممسكة به بقوة وقلبي يكاد يقف خوفا عليه ، وفاجئني ميدو حبيبي بأن نظر نحوي وهو يضحك لأمه ، كانت فرحتي كبيرة ، هكذا بدأ يفهم أن نظراته في هذا الاتجاه تجعله في مرمى عيوني وقلبي وابتساماتي له
وكنت أعرف كل شيء عن ميدو حبيبي من خلال منشر الغسيل في بلكونتهم ، ملابسه بألوانها الجميلة ، وكنت أعرف حجمه من خلالها كلما مر الوقت ، وظل الأمر هكذا حتى رأيت ملابسه المدرسية ، فعرفت أن الزمن جرى مسرعا وصار ميدو بالصف الأول الابتدائي ، فكنت أقف صباح كل يوم في بلكونتي أتابعه حين يخرج لمدرسته مع والده وحين يعود منها مع أمه بعد الظهر
لم أكن أتخيل يوما أن علاقتي بمنشر غسيل ستكون بهذا الشكل ، فهذا المنشر هو السبيل الوحيد الذي أرى وأعرف من خلاله كل شيء عن ميدو حبيبي ، وكان ميدو يخرج كثيرا مهرولا نحو بلكونتهم وكأنه يخرج بحثا عني ، كنت أشعر في تصرفاته بهذا الأمر ، حتى جاء اليوم الذي رأيت فيه ملابس مدرسية ألوانها مختلفة ، وبسؤال زوجي عرفت أنها ملابس الصف الأول الإعدادي ، فرحت كثيرا بهذا الخبر ، وفي مساء أحد الأيام سمعت أذان المغرب بالمسجد المجاور لنا ولكن بصوت طفل صغير ، اندهشت كثيرا وساورني إحساس داخلي بأنه صوت ميدو حبيبي ، وعندما رجع زوجي من الصلاة أخبرني قبل أن أسأله :
_ سمعتي أذان المغرب النهارده والإقامه ؟
_ أه سمعته وفرحت لأنه صوت طفل صغير
_ عارفة صوت مين ده ؟
_ صوت مين حبيبي ؟
_ الولد ابن جيرانا دول اللي جمب منا في البلكونة
ابتسمت وأنا أسمع من زوجي هذا الخبر الجميل الذي توقعته ، فأخبرته أنني توقعت ذلك عندما سمعته ، فبدأت أقف في بلكونتي قبل كل أذان للعصر والمغرب ربما أراه وهو يدخل للمسجد ، وقد رأيته بالفعل أكثر من مرة
واستمر حالنا هكذا ، حتى رأيت ملابس عسكرية على منشر غسيلهم كما اعتدت ، فرحت كثيرا لأن حبيبي ميدو قد أصبح جنديا بجيشنا العظيم ، وظلت لهفتي تتزايد كي أراه بملابسه العسكرية ولو مرة واحدة ، وبالفعل رأيته مرتين بخلاف مرة أخرى وهو يقف في بلكونتهم وحده قبل أن يغادر البيت إلى وحدته بالجيش ، يومها كنت متأكدة من أنه قد وقف هكذا كي أراه ويرى فرحتي به ، وبالفعل بادرني يومها قائلا :
_إزيك ياطنط
_ إزيك إنت حبيبي ، ماشاء الله عليك ببدلة جيشنا
كانت جملته هذه يومها تكفيني لأعيش سعيدة لسنوات ، وبالفعل كنت أتحرك في حياتي وأنا في منتهى سعادتي مع دهشة زوجي لحالي هذا ، وكأنه كان يرغب في أن أتجاوز مأساة أننا لن ننجب ، كنت أفهم ذلك وألاحظه ولم أكن أجعله يشعر مني بشيء كلما استطعت ذلك
ومرت السنوات حتى سمعت صوت زفة عروس بالشارع ، هرولت مسرعة نحو بلكونتي كما أفعل في كل مرة أسمع فيها صوت زفة هكذا ، وكانت المفاجأة حين رأيت ميدو حبيبي ينزل من السيارة برفقة عروسه وبجواره أمه وأمها وهو يشير بيديه لأعلى ، شعرت لحظتها أنه كان يشير لي أنا ، فانطلقت مني زغرودة وكأنني أزغرد لابني أنا ، يومها كدت أسقط من فوق سور بلكونتي من شدة فرحتي بزفافه
في فجر هذا اليوم استيقظنا على صراخ لايكاد يتوقف ، كاد قلبي يتوقف فزعا من هذا الصراخ الذي كان يملأ شارعنا كله أو الدنيا كلها ، عندما دخلت بلكونتي مع زوجي لنتبين الأمر كانت صدمتي مدوية ، أم ميدو تصرخ بقوة وهي على الأرض لايستطيع أحد أن يوقفها أو يمنعها أو يخفف عنها ماتشعر به :
_ ابني ، ابني ، ابني
تعالت الأصوات من أسفل تحمل بعض الكلمات عما حدث :
_ العربية انقلبت
_ محدش طلع من العربية
_ أول واحد طلعوه ميت كان العريس
ولم أتمالك نفسي لحظتها وإذا بي أصرغ بكل قوتي
_ ميدو حبيبي !!
تعليقات
إرسال تعليق