في بيت التوائم .. قصة / رضا الحسيني

 ..               ( حكايات رضا  )


            ..           في بيت التوائم   ..  قصة / رضا الحسيني


          كان قدر أمي أن تلدنا نحن الثلاثة كأول توائم بعائلتنا ، لم تصدق كل العائلة هذا الحدث الغريب النادر ، من قبل كانت كل زوجة تلد ولدا أو بنتا فقط في كل زواجها ، ففي عائلتنا نُدرة في الإنجاب ، فكان مولدنا سببا في جعل بيتنا مزارا عائليا لا تنتهي منه كل أشكال الزيارة وأفعال المريدين المبهورين بالبيت الأول العجيب 


         كل بيوت العائلة لم يمر بها مثل هذا الحدث الهام ، لذلك صارت بيوتا عادية ، لا يتردد عليها إلا أصحابها فقط ، أما بيتنا فهو صار قِبلة لكل العائلة ، حتى أن النساء في العائلة صِرن يتبركن بأمي وببيتنا هذا ، فتأتي كل أم بابنتها قبل زفافها لتحصل على البركة من احتضان أمي لها ، أما قبلات أمي على خديها فهي بمثابة تأكيد البركات ، ولأن أمي لا تحب بعض نساء العائلة فهي لا تحتضن كل البنات التي تأتينا مع أمها ، وإن احتضنت بعضهن فهي لا تقوم بتقبيل كل من احتضنتهن ، فقط  كانت أمي تُقبِّل البنت التي لا تأتي مع أمها 


      عشنا سنوات عمرنا نحن الثلاثة وسط كل هذه الأجواء الغريبة ، والأغرب أننا لم نذهب يوما لأي بيت من بيوت العائلة ، ولا حتى بيوت الجيران ، فقط كانوا هم يأتون جميعهم لزيارتنا ، ولا أعرف لماذا ، فقط كنت أشعر أن أمي نفسها مبهورة بكونها أم التوائم الثلاثة ، فلا امرأة في العائلة ولا في الحي الذي نعيش فيه أنجبت مثل أمي توائم هكذا 


     خلال سنواتنا الست الأولى لم يرنا أحد أبدا ، وبعد عامنا السادس هذا لم يرى أحد ثلاثتنا معا أبدا ، فأمي تخاف من أعين الجميع ، ولذلك فقد جعلت كل واحد منا في مدرسة مختلفة ، والأغرب أن اسمنا نحن الثلاثة كان واحدا ، كلنا أسعد ولكن ملحق به اسم آخر، أنا أسعد سعيد ، والثاني أسعد روح سعيد ، والثالث أسعد ابن سعيد


      كان أبي سعيد دائما رجلا متوشحا بالعباءة التي تعطيه الكثير من المهابة ، وهو صار كبير العائلة منذ مولدنا ، فلا أحد يستطيع أن يقرر شيئا ما بدون موافقة أبي ، ولا يجرؤ أحد أبدا أن يفتح كلاما في أي أمر يخص العائلة إلا بعد أن يعرضه على أبي أولا ويباركه ، فالقوة كما يقولون تأتي من أحد طريقين ، من المال أو العِزوة ، وأبي وحده فقط هو من يمتلك الأمرين معا، فأي رجل آخر بالعائلة أو بالحي حين يقسم كان يقول :


_ وحياة ابني أو بنتي


    أما أبي فهو الوحيد الذي كان يقسم بقوله :


_ وحياة أولادي 


      لذلك فلا يوجد أحد يستطيع أن يتسبب في غضب أبي ، فالذي يغضب عليه أبي قد لايجد من يحميه منه أو يرده عن غضبه هذا إلا أمي فقط ، أمي وحدها هي التي يمكنها أن ترد غضب أبي ، ولكن لا يستطيع أحد المغضوب عليهم من الوصول لأمي ولذلك لم تتوسط لأحد أبدا من قبل إلا حين يغضب من أحدنا نحن الثلاثة ، فتكون هي حامي الحمى لنا من غضب أبي ، وقتها يكون طلب أمي بالسماح هو بمثابة الأمر لأبي ، وكان لأمي وجهة نظر غالبة دائما ، فهي ترى أنه قد لايتكرر مرة أخرى أن تلد توائما مثلنا ، ولذلك لا مجال لديها لأن ينام أحدنا نحن الثلاثة وهو حزين لأمر ما أبدا 


    ومنذ أنجبتنا أمي وهي لا تعاني إلا من أمر واحد فقط ، وهو كيف تعرفنا من بعضنا ، فنحن الثلاثة نشبه بعضنا في كل شيء ، طولنا حجمنا لوننا صوتنا طريقتنا في السير ضحكاتنا و كل منا أعسر اليد والقدم ومزاجنا واحد ولبسنا واحد ، هذا التشابه الدقيق جعل من أمي أسعد الأمهات ، فهي أم أسعد دائما أيا كان من يخرج معها لقضاء أي شيء ، ومن الطرائف التي نعيشها كثيرا حين يرحب أحد  من الناس بأحدنا:


_ أنا سعيد 


_ وأنا أسعد


  وكان السؤال الذي يحيرني دائما ( هل بالفعل أنا أسعد ؟ )


        لم أعتقد يوما أنني بالفعل أسعد ، في الحي أو في العائلة لا يوجد مثلنا ، ولذلك فنحن نعيش في سجن من الذهب والمجوهرات ، لكنه يبقى سجنا ، لم نلعب مع الأطفال الآخرين ولا مثلهم ، ممنوع علينا الاختلاط بغيرنا حتى لا نصير مثلهم أو يحسدوننا ، وكانت أمي تخاف علينا بشدة من أن يصيب أحدنا مكروه ما ، وذات يوم ضرب أحد المدرسين أخي أسعد روح سعيد ، كان هذا يوما مشهودا ، كادت أمي أن تقتل هذا المدرس لو أنها طالته ، وعندما عرف أبي بالحادث أجبر المدرسة على نقل المدرس لمدرسة أخرى بالصعيد عقابا له و إلا سيناله من أبي مالا يتخيله أحد :


_ ده يمشي من المدرسة فورا ولا يرجع مرة تانية أبدا


_ يا أبو أسعد الرجل بيستسمحك تقبل اعتذاره 


_ لا سماح مع من تجرأ على إيذاء ولدي أسعد


_ يا أبو أسعد العفو عند المقدرة عمل صالح 


_ عفوي عنه هو إني هتركه يرحل من هنا ولا يعود أبدا ، لازم ابني أسعد يشوف إزاي أنا أخدت حقه ، وعشان أم أسعد تطمن كمان إنه مفيش حد تاني هنا هيضايق ابننا أسعد


     ولأننا نحن الثلاثة نتشابه بكل شيء فكان من يرى أحدنا لا يعرف أنه قد رأي الأخين الآخرين ، وهكذا لم يكن يظهر بالحي غير واحد فقط منا دائما مع أننا نحن الثلاثة نخرج كل يوم ولكن لا نخرج مع بعض


      وكان تشابهنا هذا يجعلنا نتحايل على أمنا وأبينا فنأخذ مصروفنا منهما أكثر من مرة كل يوم ، وعندما انتبها لفعلتنا هذه قرر أبي ألا يعطينا المصروف اليومي إلا ونحن نقف أمامه ثلاثتنا وبوجود أمنا 


        وأمي لاتخرج من البيت إلا مرة واحدة كل شهر وتكون مع أبي عندما نكون بالمدرسة ، ولانعرف لأين يذهبان أو ماذا يفعلان خارج البيت معا ، فقط كانت تعود حزينة جدا وكأنها فقدت شيئا ثمينا أو شخصا عزيزا ، ويظل أبي يحاول أن يحتويها 


      وفي عامنا العاشر مرضت أمي ، وفي مرضها هذا عشنا شهورا صعبة ، فالبيت لا يعرف غير الحزن ورائحة الأدوية والأطباء يدخلون ويخرجون ، فجاء أبي بفتاة ريفية اسمها إسعاد لتخدم أمي ، وخلال وجودها لم تخرج أبدا من البيت ، فكان أبي يحضر كل ما يحتاجه البيت كل يوم ، ولم تكن أمي تفعل أكثر من أنها تأكل وتأخذ علاجها وتبتسم لنا وتقرأ القرآن وتصلي وهي نائمة وتحكي مع إسعاد همسا حتى تنعس إن استطاعت ، و إسعاد هي بمثل عمرنا تماما وبنفس حجمنا  ، بيضاء بشعر أسود طويل دائما مايكون على هيئة ضفيرة وعيونها سوداء ، ومن يراها يحسبها أختنا التوأم ،وهي أول من ترانا نحن الثلاثة معا ولم تندهش ، فقط كانت بهجتها برؤيتنا عجيبة ، حتى أني ذات ليلة استيقظت عندما شعرت بملمس أصابعها على شعري :


_ بتعملي إيه يا إسعاد هنا ؟!


_أبدا يا أسعد ، سمعتك بتنده بصوت عالي حسبتك محتاج شيء من أمي الحاجة 


_ يبقى كنت شايف أمي في المنام أكيد 


      وكانت إسعاد رغم صغر سنها بارعة في كل شيء تفعله ، في الطهي والنظافة ومساعدة أمي في كل شيء تحتاجه ، ولم نشعر أبدا أن شيئا قد تغير في بيتنا أثناء مرض أمي إلا افتقادنا لصوت خطوات أمي بالبيت وصوت ضحكاتها ، أما أبي فكان كثير التواجد بالبيت منذ جاءت إسعاد ولم نكن نفهم السبب ، كنا نعتقده شديد الخوف على أمي وهي مريضة ، والغريب أن أبي لم يغضب يوما من إسعاد مهما ارتكبت من أخطاء أو قصَّرت في شيء ،بل كان دائما مايبتسم لها ويأتي لها بالهدايا مثلما يفعل معنا ، ولاتنادي أبي إلا بلقب آبا الحاج :


_ كتير ده يا آبا الحاج اللي جبتهولي


_ مفيش حاجة بتكتر عليكي يا إسعاد يا بنتي


       كانت الأمور تبدو لنا طبيعية ، حتى أمي كانت تراها هكذا ، بل كانت أمي إذا دخلنا عليها نجدها تحتضن إسعاد وتُقبلها وهي تبكي ، حتى ماتت أمي ذات ليل وإسعاد قد ارتمت بجسدها فوقها وهي تردد بصوت خافت سمعته بصعوبة:


_ أعمل إيه من بعدك يا أمي ؟


     وظلت تكررها عدة مرات حتى دخل أبي واحتضنهما معا وهو يردد  مع ذهولي الشديد:


_ بنتك إسعاد مالحقتش تشبع منك ياسعاد ، ياريتني مابعدتها عنك ، ياريتني ماخُفت من عيون الناس لوعرفوا إنك أنجبتي أربعة مش ثلاثة !!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مناجاة روح...زهور الخطيب

منفى الرسائل...شعر خالد الخطيب

ابوي علمني ...هبة أبو السعود