(كانَ عَيْنَ الكَونِ دَهرًا) //بقلم أ.محمد رشاد محمود

 (كانَ عَيْنَ الكَونِ  دَهرًا)

درَّجَني الجَهرُ بالحَقِّ ،  فَزُجَّ بي إلى غَيابَةِ المُعتَقلاتِ في العراق قريبًا من مطلع عام 1979 وكنتُ في الخامسة والعشرين ، أتحرَّى أنوار باريس بقطار بغداد الدولي الذي كانَ يربطها بأوربا آنذاك ، وأسعى إلى تسَنُّم وظيفَةٍ أستَعينُ بها على الرِّحلَة ، وبعد أشهر من التنقلات رُحِّلتُ إلى سوريا ، فاحتجَزني سجن المخابرات ، وهو مبنًى تحت الأرض مُصمَت الجدران ، لا منفذ له إلا طاقةٌ في  بابٍ يُطِلُّ منها السجَّان ليُدخِلَ طعامًا أو يسوقَ المُحتَجَز إلى التعذيب ، فإلا يَكُونا فلأمرين لا معدى عنهما .. سِجنٍ يطول إلى ما يشاء الله ، أو انعتاقٍ على غير ما يَرغَبُ السَّجينُ ،  بالترحيل إلى خارج البِلاد، فلما استنفَد المحقِّقون حيَلَهم في محاولة الوقوف على تهمةٍ ، ما كنت لأدينَ بها نفسي  ، رأت السلطات أن تطرَحَني في سجن القلعة - غرفة 5 أبراج ، حيث تزأرُ  الأحجار الآخذة في السموق أن لا منجى لكَ مني أيها البائِس ، وعلى السطح قضبانُ نافذةٍ -  لا كالنوافِذ   - منبَطِحَةٍ إلى الأرض ،  يُطِلُّ منها سجَّان مُدَجَّجٌ بالسلاح ، يترصَّدُك في كل لحظَةٍ من ليلٍ أو نهار ، ثُمَّ إنَّ دونَكَ بابًا من قضبان الصلب ، مِنْ دونِهِ باب ، يتأدَّى إلى سمعِكَ منه صليل مفاتيح السَّجَّان . 

في تلك الحال ، ذات يوم من سبتمبر من عام 1979 لمحتُ طائِرًا خِلتُهُ علَى فَنَنه فاستنطَقني قصيدةً ، منها هذه النفثات : 

طــائـــــِـرٌ رَفَّ وأُملــــودٌ هَــــــفَا

ذَكَّـــــرَانِـي بِنَـعـيـــــمٍ سَلَـــــــفـَا 

حَيْـــثُ ماجَ النـُّـورُ في أمشاجِـهِ 

مَسْبَــحٌ لِلـــرُّوحِ يُــذكي اللَّهَـــفَــا

لِحَبيـــبٍ غِيــــلَ عني لَـــمــــحُهُ

بِشَبَـــــا القَيـــْـدِ وغَـمٍّ كَـــــثــفَــا

داهَــمَ الـقَلــبَ فإنْ جَاشتْ بِــــهِ

نَــزْعَـةُ لِـلـرَّوْضِ والطَّيْـــرِ زَفَـــــا

شَظَفٌ حَولِي وفـي عَيـشي كَــذا

كِبَــــرُ الأنفُسِ يَـــدعـو الشَّظَفَـــا

مُوجَعٌ في القَيـْــدِ لا أضنَى لـَــــهُ

قَدرَ مـَــا أضْنَى لِقَيْـــــــدٍ دَنَّفـَــــا

من نفوسٍ فُحْـنَ فـي أجسادِهَـــا

جِيَـفًا تَجفو الوَفَــا إمَّـــا ضَفَــــــا

تَــدَّعي الفِطْنـَةَ والــرُّشدُ لَهـَــــــا

قَبَـــسٌ في كَـــفِّ مِصــرٍ يُقتَـفَى

شَانَهَـــــا منِّي جَـهِـــيرُ الـــرَّأيِ لا

يَـرْتَشِي بِالمَـالِ أو يَخْشَى الجَفَــا

لا أرومُ المَــالَ إنْ جـــاءَتْ بِــــــهِ

نَــزْعَــةٌ لِلـــغَيِّ فالــرُّشْـدُ كَــــفَى

لا يَبيــــعُ الــحُرُّ بالكَــــوْنِ حِمًـى 

ضَمَّـــهُ مَهْـــدًا ويَـحوي الجَدَفـَــا

مَوْطِني المَجْــدُ ومَجْلاهُ السَّنَــــا

كانَ عَيـْـنَ الكَـوْنِ دَهْرًا إذْ غَـفَـــا

شَمسُـهُ صَحــوٌ وعَـذبٌ نِيـــلُـــــهُ

وثَـــرَاهُ الخِصْـبُ يُنـْمي الشَّرَفَــا

أَوغِـروا لِلــحَقِّ صَــدرًا فَالخَنَـــــا

مُـوغَـرٌ مِنِّي ومِنْ طَبعي الوَفَـــــا

كَـبِّلُـوا الكَــفَّيْــنِ فالــقَلــبُ بِــــلا

وازِعٍ حُـــرٌّ يَــعَــافُ الصَّلَـــفـَـــــا 

واعْصِبُـوا العَيْنَـيْنِ فالحَوْبــاءُ مِنْ

جَذوَةِ النُّهْــــيَةِ تَجلُــو السُّدَفَـــــا

قَرَّعَ الحَمْـقَى تَناهَـــى جَهْــلُهُـــم

أنَّ أسْرَ الحُـــرِّ يَبْـــرِي الصَّلَـفَـــــا

غِلـْـــتُ طَيَّ السِّجْنِ أزلًا وَهُــــــمُ 

حُرُّهُـــــمْ في جَهْــــلِهِ قَد رَسَفَـــا

(محمد رشاد محمود)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.